هناك مثل مصري هو خير رد على الحملة التي صاحبت وفاة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، نصه بالعامية المصرية: ملقوش في الورد عيب، قالوا يا أحمر الخدين، وهو تعبير عامي عن قول البحتري الشاعر المعروف:
إذا محاسني التي أُدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟!
فإذ بكم من الهجوم على الرجل، وإلصاق العيوب به مما ليس فيه، بل زاد الطين بلة أن يحولوا ميزات الرجل لعيوب مختلقة، وآخر هذه الافتراءات فيما يتعلق بثروة القرضاوي، وما ناله من جاه ومقام لدى الناس، متحدثين عن قصور وفيلل وأموال، وإذا صح ما قالوه عن امتلاكه لكل ما ذكروا من أرقام، فالسؤال الأهم هنا: هل الإسلام ضد ثراء المسلم أو العالم من الحلال؟ لقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، وليس محببا في الإسلام، نعم أمرنا برعاية الفقير، ولكن كره إلينا الفقر، بل سمى القرآن الكريم المال خيرا، فقال تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد) أي: المال، وقال صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح، للعبد الصالح".
وقد عرف تاريخنا فقهاء كانوا بلغة الأرقام في زماننا مليونيرات، إن لم يكونوا مليارديرات، مثل: الإمام أبي حنيفة، وقد كان تاجر أقمشة، وحرير. والإمام الليث بن سعد، وكان تاجر عسل، من أصحاب التجارات الكبرى في مصر، وكان يصل الإمام مالك عند حاجته بالمال. ومر رجل على الحسن البصري ومعه دراهم يعدها، فقال الرجل مستنكرا: أأنت يا الحسن؟ فقال الحسن: إليك عني، فولا هذه لمندلونا، أو لمتندلوا بنا. أي: جعلنا الحكام مناديل في أيديهم يلعبون بها كيف شاءوا.
معظم هؤلاء يريد تصدير صورة القرضاوي صاحب الثروة العظمى، دون أن يذكر سياق حياة القرضاوي، سواء قبل قطر أو بعدها، فهل من المستغرب على رجل عاش في الخليج منذ سنة 1961م حتى وفاته، أي حوالي (61) سنة أن يكون ثريا؟! إن أي مواطن عربي يقدم لدول الخليج في إعارة عمل، لو عمل لعشر سنوات أو عشرين عاما، وعاد بثروة ما تعجب الناس منها، بل يكون العجب إذا لم يحقق ثروة هائلة من وراء عمله الطويل ويتهم بالبلاهة، وعدم التدبير، فكيف بشخص كان أول عمل له في قطر مدير معهد ديني، ثم عميد كلية، ثم مدير مركز في الجامعة، لو اكتفى براتبه لكان من أهل الثراء، وهو ما حدث لبعض زملائه من شيوخ من الأزهر حين أعيروا لقطر لسنوات، ونزلوا مصر بنوا عمائر، فهو أمر المستغرب هو الحديث المستنكر.
ومن دخل بيت القرضاوي، سيجده بيتا عاديا يتناسب مع بيت أي مواطن قطري في دولة خليجية، لا هو بالبسيط، ولا هو بالفخم فخامة لا مثيل لها، في متوسط حياة المواطنين، لطبيعة الرجل المتواضعة، ومع ذلك فهناك تفاصيل عن حياته المالية لم يكن من المقبول الحديث عنها في حياته، والآن أجد الوقت مناسبا للحديث، من باب إنصافه، وردا على الكذبة.
ما لا يعلمه الناس، أن كل مشاركات القرضاوي على قناة الجزيرة والتي بدأها منذ إطلاقها حتى سنة 2013م، برنامج الشريعة والحياة، لمدة تصل (27) عاما، برنامج أسبوعي في فضائية كبرى كالجزيرة، كم تقاضى القرضاوي منها راتبا؟ لم يدخل جيبه ريال واحد، فقد كنت مديرا لمكتبه، وفي سنة 2002م، أُبلغ الشيخ أن له مستحقات تصل لإثنين مليون ريال قطري، فطلب القرضاوي أن تحول كتبرع لموقع إسلام أون لاين، تم عمل دعاية للموقع على الجزيرة بجزء، والجزء الآخر تم تحويله، سواء عن طريق الجزيرة أو الشيخ.
وبعد ذلك أصبح كل ما يأتي من البرامج يسير وفق هذا الترتيب، يحول لإسلام أون لاين، ثم بعد ذلك أغلق الموقع، فتم تحويل كل ما يأتيه من البرنامج للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وكذلك الحال في المقالات والمشاركات البحثية في المواقع والصحف والمجلات.
إن كثيرا من هؤلاء الحكام أرادوا استمالة القرضاوي إليهم، أو تحييده، ولم يفلحوا في ذلك، فقد ظل طوال حياته مستقلا، لا هو بالذي يصطدم مع الحكام، ولا هو المداهن لهم، ولكن عندما يجد جورا وظلما بينا واضحا من الحاكم يقول قولة الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم،
أما عن الجوائز التي نالها منذ أول جائزة، ومرورا بجائزة الملك فيصل، ثم جائزة دبي، وسلطان بروناي، وجائزة العويس، وجائزة قطر، وغيرها، كل هذه الجوائز عمل بها وقفية متبرعا بها كلها، ولم يدخل بيته ريال واحد منها، وهو ما شهدنا به بأنفسنا، فقد اتخذ قرارا أن كل مال يأتيه عن طريق الدعوة لا يدخل بيته ولا حسابه الشخصي، ليس تحريما لذلك، بل ترفعا وتركا لما هو مباح وحلال له.
ومنذ خمس سنوات، فوجئ الشيخ باتصال من إحدى الجهات في دولة عربية إفريقية، تخبره أن هناك مبلغ وقدره (200) ألف دولار، له، وقد كان رصده لعمل ما، ولم يتم العمل، فقال الشيخ: لا أتذكر هذا المبلغ، وأتوا له بكل دليل على حقه في المال، وهو مصر على أنه فعلا لا يتذكره، وقال: لن آخذ مالا لا أتذكره، وخروجا من الخلاف، قال لهم: ضعوه في العمل الخيري كذا في بلدكم، وتبرع به.
وهناك تفاصيل كثيرة في هذا الباب، هذا بعض ما اطلعت عليه، وربما لو كتب من يعرفون الشيخ ما لديهم من تفاصيل في الأمور المالية، لتعجب الناس من تصرفات الرجل مع المال، وقد اكتشفت أن هذا الموضوع لا يتحدث فيه بافتراء إلا أهل البخل في العمل الخيري، فالإنسان الخير لا يتعجب من وجود المال مع الصالحين، لأنه يعلم أن لأهل الحاجة والفقر والخير فيه نصيبا، أما أهل الشح والبخل فهو يوارون سوءاتهم وبخلهم بالطعن في أهل الخير والعمل الخيري.
أما مسألة الجاه والكاريزما، كما لوح أحد من امتدح القرضاوي حيا، وتطاول عليه ميتا، فالسؤال الأهم هنا: هل تقدير الناس للقرضاوي، كان عن عمالة من الرجل لسلطة؟ هذا ما لا يمكن لعاقل أن يقوله، ولو قاله متطاول لن يجد عليه دليلا واحدا، فالرجل لم يترك حاكما إلا وانتقده بأدب وجرأة، بداية من حكام البلد التي يحمل جنسيتها (قطر)، وحكام: السعودية، والإمارات، ومصر، وسوريا، وليبيا، وغيرهم.
والحقيقة المتجردة تقول: إن كثيرا من هؤلاء الحكام أرادوا استمالة القرضاوي إليهم، أو تحييده، ولم يفلحوا في ذلك، فقد ظل طوال حياته مستقلا، لا هو بالذي يصطدم مع الحكام، ولا هو المداهن لهم، ولكن عندما يجد جورا وظلما بينا واضحا من الحاكم يقول قولة الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، وقد رأيت ذلك بنفسي في مواقف غير معلنة، ورأى ذلك الناس في مواقف له على وسائل الإعلام المختلفة.
أما ما يناله من تقدير، فما رأيته بعيني، أن كثيرين من أهل السلطة يقدرون أصحاب المواقف، إما رهبة أو عدم صدام معهم، وهو ما كنت أراه من مهابة القرضاوي في أعين كثيرين من أهل السلطة، ولم يقبل من أحد منهم تجاوزا في حق الشرع، ولا في حق إنسان غائب، أو حاضر، وعندي في ذلك مواقف كثيرة جدا، تتعلق بعلماء ودعاة رفض أن يساء إليهم وهم غائبون، بل رد على المسؤولين الذين ذكروهم بسوء، وهو ما يجبر هؤلاء على احترام الرجل، وتقديره، بينما ينظرون لمن ينافقونهم باحتقار، ولو أظهروا لهم أحيانا التقدير والتوقير.
رحم الله القرضاوي، الذي أوجع الطغاة والظالمين وأذنابهم حيا وميتا، وكان ذلك رسالة ودرسا لكل من يحمل رسالة العلم والدعوة: أن رضا الناس غاية لا تدرك، وأن رضا الله هو الباقي للإنسان في حياته وبعد مماته.
Essamt74@hotmail.com
مجتمعاتنا وصناعة التفاهة والتافهين واستبعاد النابهين
الشيخ القرضاوي مضى في سُننِ الأولين والآخرين إلى رب العالمين
كَالْعِيسِ في البَيْداءِ يَقتُلُها الظَّما..