مثلي مثل بعض من أبناء جيلي الذين نشأوا وتأثروا منذ بواكير الصبا بالفكرة الإسلامية،
كنا نعتقد أن العلامة الشيخ القرضاوي متساهل في أحكام الدين، مبسط ما يجب أن يكون
معقدا. فقد كنا نؤمن بأن صلابة المؤمن تعني تشدده في أحكام الدين وأن الأخذ بالرخص
لا يصح ولا يجب، وأن الوسطية هي بداية التفريط في كل شيء، في العقيدة والعبادة
والمعاملة، وكنا خاطئين..
كان انتقاد الإمام سمة جيلنا الغارق في بحر من التشدد اللا إرادي بسبب ما
فرضته الظروف السياسية والاجتماعية والخطب النارية والحماسية في ذلك الوقت، وأعني
به نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، ثم زاد التشدد وتحول إلى تطرف وعنف لا
تخطئه العين ولا تمحوه السنين. كل ذلك والقرضاوي ماض في طريقه يدعو إلى الوسطية
والرشد وترشيد الصحوة وتأصيل منهج التيسير في الفقه، غير مبال بما يقال عنه، ولا
بالكتب التي تنسخ ضده ولا المقالات التي تدبج في بعض العواصم ويدفع بها في أمهات
الصحف لكي تسفه أفكاره وتنال من دينه وعقيدته.
كان كالجبل الأشم، لا يعنيه من أمر الناس إلا مرضاة الله والبحث عن طرق
تقربهم وتحببهم في الدين، وذاك لعمرك خطاب كان يواجه بعنف لفظي لم أر له مثيلا..
وحين قرأت له بوعي وضمير الباحث عن الحقيقة وجدتُ ضالتي وأدركت أنه عالم
حقيقي في وسط بحر لجي؛ الغلبة فيه للأعلى صوتا والأكثر ضجيجا، وتحولت عن عالم
الكلام والسفسطة وأدركت من كلام القرضاوي الجميل معاني عظيمة لفقه العمل، ومنها
على سبيل المثال كلامه وفهمه للحديث الصحيح "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم
فسيلة فليغرسها"، وكيف لفت نظري من البحث عن علامات الساعة والمهدي المنتظر
والمسيخ الدجال؛ إلى العمل حتى آخر رمق ولو كنت على مشارف الساعة، فالعمل العمل
حتى ولو لم تكن تستفيد منه..
منذ تلك اللحظة العظيمة أدركت عمق الرجل وفهمه الرائع للإسلام المبني على
اعتقاد صحيح، وفعل يضيف جديدا للناس وللحياة بشكل عام.
كنت محظوظا حين التقيت الشيخ الإمام لأول مرة في حياتي في صيف عام 1989 في
بيت أحد شيوخ الإخوان المسلمين في شبرا الخيمة، وكانت ثورة الرئيس السوداني عمر
البشير لا تزال حديث المدينة وكانت لديه التفاصيل، وحين سئل عنها قال لا أحب
الانقلابات العسكرية ولو قام بها ضباط من الإخوان.. وكانت الصدمة ولمَ لا؟ طالما
أن أفق التغيير السلمي غير موجود فلماذا لا يحدث تغيير من داخل المؤسسة العسكرية؟
وأدركت لاحقا أن العقلية العسكرية وإن كانت قمة في التدين لا تصلح لقيادة مجتمع
مدني، وأن ما جنيناه من الانقلابات لا يبعث على التفاؤل أبدا.. وقد أفلح القرضاوي
في توقعه، وإن التمست ألف عذر للبشير إلا أن عقلية العسكر لا تقبل الشراكة ولا
الديمقراطية ولا التفاهم مع الآخر..
مرة أخرى في بداية الألفية الجديدة التقيت الإمام في الكويت، وتحديدا في بيت
المستشار سالم البهنساوي الذي تصدى وبشجاعة فائقة وفند بمنهجية رائعة تهاتف
العلمانيين وتشدد المتطرفين. وحكى لنا الإمام عن هلع المملكة العربية السعودية مما
جرى في 2001، وكيف أن أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 نعتت السعودية
بالإرهاب، وأنه يتعين على أولي الأمر التحرك من أجل وقف قطار التطرف والتكفير
السعودي الذي امتد أذاه إلى خارج الحدود، وكيف أن الأمير عبد الله، ولي العهد
السعودي آنذاك، دعاه للحضور إلى المملكة للبت في كيفية إعادة تأهيل المجتمع ونشر
ثقافة الإسلام المتسامح ومفهوم الوسطية هناك بدلا من مفاهيم التشدد والتطرف.
وللمفارقة وبعد كل ما جرى، أصبحت السعودية تصم الشيخ بالتطرف وبالإرهاب،
وهي الدولة التي كانت ترعى التطرف والتشدد ومفارخ الإرهاب المسجلة بالصوت والصورة..
وبعد الانقلاب زرت الإمام في مكتبه في قطر، ووجدته على عهده وبنفس حماسته
المعهودة ومتابعته الدؤوبة وشغفه المستمر للثورة والحرية، وعلمت أنه كان يتابع ما
نقدمه من دفاع عن الثورة ورفض للانقلاب عبر برامج الجزيرة. وكانت بعض هذه الردود
مثار إعجاب وثناء، وكنت أقول له ضاحكا: أنتم السابقون يا فضيلة الإمام. ومرت
الأيام وانتقلنا إلى تركيا، وعندما حانت المناسبة حل ضيفا عبر الهاتف على برنامجي "مع
زوبع"، رغم أن البرنامج كان يذاع متأخرا وعلى الهواء، فقال لي سأفعل لأجل
خاطرك. وسألته سؤالا وتركته ليشنف آذاني وآذان المستمعين من فيوضات علمه ومن مكارم
خلقه وتواضعه الجم، رغم تأخر الوقت وقد كان معتادا على النوم مبكرا.. جبر الله
خاطره ورفع قدره.
ثم التقيته في تركيا والأمة تحتفي به وبعطائه العلمي والمعرفي والفقهي
والأدبي على مدار عقود من الزمن، وكان رحمة الله عليه يتفقدني بالسؤال كلما سنحت
له الفرصة، مستذكرا ما طرحته عليه في لقائنا في دولة قطر من ضرورة التفكير في
تقديم نسخة شعبية من الإخوان المسلمين، نسخة تلامس اهتمامات المواطن البسيط وتشتبك
معه معرفيا كما ترتبط به اجتماعيا وخدميا، فليس بالعمل الاجتماعي وحده ترقى الشعوب،
بل هي في حاجة إلى المعرفة والثقافة حتى تتمكن من التفاعل مع دعوات التغيير متى
حدثت.
وعلى غير عادة أقرانه من العلماء والفقهاء كان الشيخ الإمام حجة في حواراته
وأحاديثه، وكان قويا في محاوراته ونقاشاته مثله في ذلك كمثل الشيخ الغزالي صاحب
الرأي الصريح والقول الفصيح والكلمات القوية والحجة الدامغة، وكنت أراهما في
بواكير العمر كجناحين للإسلام؛ أحدهما يدحض افتراءات المفترين بخطابه ولهجته
القوية والآخر يفعل باستدلالاته الشرعية الموثقة. وقد برع الاثنان عليهما رضوان
الله في الاستشهاد بالآيات والأحاديث النبوية بطريقة عفوية تثير الإعجاب والغبطة،
وهي طريقة لا يجاريهما فيها سوى القلة من علماء وعظماء هذا الزمان.
إذا كنت سأكتب للأجيال المقبلة عن الإمام القرضاوي فسأقول: "لا بد لكل
من يريد أن يسلك طريق العلم الشرعي ويقدم للناس الفتاوى والآراء في الدين والشريعة
أن يدرس سيرة الإمام القرضاوي بعناية فائقة، وألا يترك شيئا منها يمر دون أن يفهمه
ويتعلم الدروس من مسيرة هذا العالم كإنسان أولا وقبل أي شيء؛ لأن سيرته ومسيرته
الإنسانية سوف تمنحك القوة والقدرة على الاستمرار في مجالك وستتعلم منها كما ما
زلت أتعلم كيف تخفض الجناح لكي تعلو وتسمو وترتقي".
رحم الله الإمام ورضي الله عنه وعن علماء الأمة الكرام..
قبل الختام
وبينما أختم كتابة هذا المقال علمت بخبر وفاة عالم جليل آخر هو الشيخ
الدكتور أسامة عبد العظيم، أستاذ أصول الفقه العالم العابد وأحد قامات الحركة
السلفية الراشدة في عصرنا الراهن، عليه رحمة الله ورضوانه. فقد كنا نسمع به وعنه
كل خير، وملأت سيرته العطرة أرجاء العالم العربي..
وقف الموهوبين.. حلم الشيخ القرضاوي الذي لم يتحقق
العلامة القرضاوي وأقزام الإمارات والعسكر
مؤسسة القرضاوي في التجديد والاجتهاد وبناء العلماء