نشرت وكالة "بلومبيرغ" تقريرا مطولا حول واقع الاقتصاد البريطاني في ظل تتالي الأزمات الدولية، بالتزامن مع تولي ليز تراس رئاسة الحكومة الجديدة.
واعتبر محررو القسم الاقتصادي بالوكالة، أن بريطانيا ظنت أنها موضع ثقة الأسواق، حتى تبين العكس بانخفاض قيمة الجنيه الاسترليني عقب القرارت الحكومية الأخيرة، حيث بات من المحتمل أن يدفع الثمن ملاك البيوت وأصحاب الأعمال.
كما انتقد التقرير الذي أعده الصحفيون الثلاثة فيليب آلدريك وليبي تشيري ودافيد غودمان، سياسة الحزب الحاكم، معتبرين أن تراس "ستفشل في خطتها الاقتصادية".
وفيما يلي نص التقرير الذي ترجمته "عربي21":
تمر بريطانيا بأزمة مالية جنتها أيديها تهدد بتسريع انهيار الاقتصاد باتجاه الركود، بينما تتعرض رئيسة الوزراء البريطانية التي استلمت منصبها للتو للضغط.
في الأسبوع الذي أعلنت فيه الحكومة عن أكبر تخفيضات للضرائب منذ عام 1972 بدون الإفصاح عن كثير من التفاصيل حول كيفية تمويل ذلك، انهار الجنيه الاسترليني إلى أدنى مستوى له على الإطلاق مقابل الدولار، وارتفعت بحدة تكلفة تأمين الدين الحكومي البريطاني ضد مخاطر العجز عن السداد، حتى وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2016، وأجبر البنك المركزي في إنجلترا على التدخل وسط مخاوف تحيق بصناديق التقاعد في البلد.
وما سيحدث من بعد، هو الذي سوف يحدد مدى عمق الركود الذي يلوح في الأفق.
والأمر المركزي المرتبط بذلك هو ما إذا كانت إدارة ليز تراس التي لم يمر عليها سوى ثلاثة أسابيع، قادرة على استعادة مصداقيتها لدى المستثمرين.
لقد غدت الميزانية المصغرة التي أعلن عنها يوم الجمعة نقطة وميض، ليس فقط فيما يتعلق بمخاوف المستثمرين على المدى القصير حول تخفيضات الضرائب غير الممولة، في وقت ارتفع فيه التضخم إلى مستوى لم يصل إليه منذ أربعة عقود، وكذلك حول فشل البنك المركزي في احتواء نمو الأسعار.
بل ركزت هذه النقطة الأنظار على المخاوف المستمرة منذ زمن طويل بشأن بريطانيا، وعجز حسابها الجاري، وعلاقة المشاكسة بينها وبين أقرب شركائها التجاريين، والأهم من ذلك كله، عدم الثقة بما يعد به السياسيون المتعاقبون على السلطة.
وقال الخبير المالي الاستراتيجي بيتر كينسيلا؛ "إنها آخر أزمة في سلسلة طويلة من الأزمات التي تجنيها أياديهم بسبب قرارات اقتصادية جاهلة. بدأ ذلك بقرار بريكسيت، وها نحن الآن نرى الأمر يتكرر من جديد".
وبينما هبطت الأسواق، اضطر البنك المركزي في إنجلترا إلى التدخل لمنع حدوث انهيار في سوق المال؛ فلجأ إلى أداة إجرائية مختلفة ظلت تراس طوال الشهور الأخيرة في انتقاد مستمر لها، حيث وعد بشراء أي أسهم وأوراق مالية مؤجلة ثمة حاجة إليها من أجل إعادة النظام إلى السوق.
وهذا أطلق سباقا على الأوراق المالية الآجلة، ولكنه يزيد من خطرين: أما الأول، فهو أن البنك سيتوجب عليه رفع معدلات الفائدة أكثر فأكثر خلال أسابيع. وأما الثاني، فهو أن المستثمرين قد يهرعون إلى الهرب خشية أن يكون البنك المركزي في إنجلترا هو الذي يمول الحكومة.
وحسبما ذكر كالوم بيكرينغ، كبير الاقتصاديين في مصرف برينبيرغ، فقد تمكن البنك المركزي في إنجلترا من شراء بعض الوقت للحكومة حتى تعالج إشكالية انعدام المصداقية.
أما كيف ستستغل الحكومة ذلك الوقت، فهذا هو الأمر المهم فعلا.
والأربعاء، حث مسؤولان مصرفيان في الحي المالي في لندن وزير المالية كوازي كوارتنغ على طمأنة الأسواق، قبل صدور البيان الذي من المقرر أن يعلن عنه في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
أما صندوق النقد الدولي الذي هب لإنقاذ بريطانيا في عام 1976، فقد دعا الحكومة إلى إعادة النظر في التخفيضات الضريبية، فيما احتشد مشاهير الاقتصاديين لكي يحذروا من أن بريطانيا تظهر سمات السوق الناشئ.
وفي حديث مع "بي بي سي"، اتهم المحافظ السابق للبنك المركزي في إنجلترا، مارك كارني، حكومة تراس بتجاوز المؤسسات الاقتصادية في البلاد.
إلا أن رئيسة الوزراء ظلت مصرة على خططها، حيث قالت الخميس؛ إن الاقتصاديات حول العالم تواجه ضغوطا قاسية.
وقالت في لقاء مع إذاعة "بي بي سي": "لا شك لدي بأن الحكومة قامت بما هو صواب.. هذه هي الخطة الصحيحة".
وتكمن المشكلة بالنسبة لتراس في أنها جعلت التخفيضات الضريبية حجر الزاوية في برنامج حكومتها.
ولذلك، فإن التراجع في وقت مبكر جدا من عهدها، سيكون فتاكا من الناحية السياسية، فهي لم تفز بالمنصب إلا بفضل دعم أعضاء حزب المحافظين على مستوى القاعدة.
أما نواب البرلمان عن حزبها فقد صوت معظمهم ضدها، مما تركها مكشوفة أمام احتمال تمردهم فيما لو أحسوا بأن سياساتها تقود الحزب نحو الهزيمة.
وبينما ينتظر البريطانيون ليروا ما إذا كانت المراهنة على نظرية "رشح المنافع" الاقتصادية سوف تؤتي أكلها، يواجهون زيادة هائلة في تكاليف الاقتراض، وهو ما قد يتسبب بانهيار في سوق العقار ويعمق من الركود، أو دورة ضخمة من تقليص الإنفاق الحكومي.
وقال لورانس سامرز، وزير المالية الأمريكي الأسبق، الذي يعمل حاليا أستاذا في جامعة هارفارد ويتقاضى أتعابا على تحليلاته التي يقدمها لتلفزيون بلومبيرغ: "ما بين بريكسيت ومدى استعداد البنك المركزي في إنجلترا للوقوف من وراء المنحنى والآن هذه السياسات المالية، أعتقد أن بريطانيا سوف يتذكرها الناس بكونها قد انتهجت أسوأ سياسات اقتصادية لأي بلد كبير ومنذ وقت طويل".
ورفضت وزارة المالية البريطانية الإدلاء بتصريح حول موضوع هذا التقرير.
إلى ذلك، مازالت أزمة الثقة تستمر منذ سنين.
وثمة مجموعة من الأمور التي تضافرت لتفقد المستثمرين الثقة بتعهد وزير المالية بإعادة الاستقرار إلى الوضع المالي العام، ويأتي على رأسها المزاعم المريبة الصادرة عن حزب المحافظين الحاكم، وتتراوح ما بين الحديث عن منافع بريكسيت، إلى تنظيم حفلات داخل مقر رئاسة الوزراء في أثناء الإغلاق أيام جائحة كورونا، وكذلك ما حصل مؤخرا من إقصاء لكبير المسؤولين في وزارة المالية، وتهميش الهيئة التي تناط بها مهمة الرقابة على ميزانية الدولة.
وقال ألان مونكس، الاقتصادي في مؤسسة جيه بيه مورغان تشيز وشركائه في لندن: "الأسواق ليست على استعداد للثقة بمزاعم إدارة تراس، أنها سوف تحقق استقرارا ماليا على المدى المتوسط بناء على كلمتها هي فحسب. وذلك يعكس انعداما أوسع للثقة في الأسواق حول الطريقة التي تتطور بها صناعة السياسة في بريطانيا، وفي رأينا، انعدام الثقة ذلك مبرر تماما".
ولا يوجد ما يدل على ذلك أفضل من تراجع قيمة الجنيه الاسترليني، الذي ما لبث يتراجع منذ عام 2007 حينما كان يساوي دولارين اثنين، قبيل الأزمة المالية مباشرة، فوصل إلى 1.5 دولار في زمن الاستفتاء على بريكسيت، وها هو الآن يوشك أن يتعادل في القيمة مع الدولار.
وقال بيكرينغ، الذي يعمل في بيرينبيرغ: "نظرا لأن بريطانيا أضرت بما كانت ذات يوم تتمتع به من مصداقية قوية، مرورا بإدارة سيئة لبريكسيت وما نجم عن ذلك من مخاطر نشوب حرب تجارية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، لم تعد بريطانيا تتمتع بإحسان الظن بها".
اقرأ أيضا: "فورين بوليسي": لماذا تدهور الاقتصاد البريطاني؟
أما بالنسبة لمونكس من جيه بيه مورغان، فإن الشكوك بدأت قبل الاستفتاء على بريكسيت في عام 2016، ثم تسارعت بعد النتيجة الصادمة، ووصلت ذروتها في الهجمات الأخيرة على البنك المركزي وعلى القضاء وعلى الخدمة المدنية.
لربما ساهمت تلك الخلفية من الارتياب وانعدام الثقة في التعمية على بعض الإصلاحات المفيدة التي أتت بها الميزانية المصغرة.
وأوضح سايمون فرينش، كبير الاقتصاديين في مؤسسة بانميور غوردون وشركاه، أن سوء التعامل مع الميزانية المصغرة كان مؤسفا؛ لأن الكثير من الإصلاحات المتعلقة بجانب التوريد في قطاعات مثل التخطيط كانت ذات جدارة حقيقية.
إلا أن المنح والعطايا المالية التي قدمت يوم الجمعة – دون أن تكون ممولة –، مثلت خروجا على ما كان مألوفا في التقاليد الاقتصادية لحزب المحافظين الذي تترأسه تراس.
ومازالت الحكومة بحاجة إلى أن تقرر كيف ستغطي الاقتراض الإضافي، الذي تحتاجه للوفاء بما وعدت به من تخفيضات ضريبية تصل إلى 45 مليار جنيه استرليني، بالإضافة إلى 60 مليار جنيه استرليني أخرى لتغطية برنامجها لتعويض الناس عن الارتفاع الحاد الأخير في فواتير الطاقة.
وستؤدي هذه الإجراءات إلى الدفع بعجز الميزانية في البلاد للارتفاع إلى 4.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي على المدى المتوسط.
كما سيكون ذلك كافيا لوضع عبء الدين على طريق متفجر، يصل إلى 101 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، بحسب التحليلات الاقتصادية لبلومبيرغ.
وفي هذه الأثناء، سيتعرض البنك المركزي في إنجلترا لضغوط متراكمة، وهو الذي قضى جل العام في التصارع من أجل زيادة معدلات الفائدة بسرعة تكفي لمكافحة الارتفاع الحاد في التضخم، الذي فشل في التنبؤ بحدوثه.
ومن المؤكد أن البنك المركزي في إنجلترا سوف يرد على السياسة المالية الفاشلة بتقييد السياسة النقدية. يراهن المضاربون في سوق المال حاليا على ارتفاع لا يقل عن 150 نقطة قاعدية في معدلات الفائدة في أثناء اجتماع صناع السياسة القادم في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر.
ولو وضعنا جانبا مخاطر حدوث ارتفاع طارئ خارج الاجتماعات المجدولة، فإن ذلك سيكون تحركا غير مسبوق منذ أن مُنح البنك استقلاله من قبل الحكومة في عام 1997.
كما أن التسعير يثبت أن مُعَدَّل الفائدة الأساسي، من المؤكد أنه سيصل إلى مستوى 6 بالمائة في العام القادم.
وتتجهز الشركات وملاك البيوت الآن لزيادة حادة في تكاليف الاقتراض، حيث تواجه أكبر المؤسسات البريطانية تكلفة هي الأعلى من أي وقت مضى لتمويل ديونها.
وتقدر مؤسسة ريزوليوشن أن الزيادة الإضافية في معدلات الفائدة، سوف تضيف ألف جنيه استرليني إلى التكلفة السنوية لقرض سكني قيمته 140 ألف جنيه استرليني.
ويقدر المحللون في مجموعة كريديت سويس، أن أسعار المنازل قد تنخفض بسهولة بمعدل يصل إلى 15 بالمائة.
إذن، تواجه بريطانيا مستقبلا أشد قتامة مما تعهدت به تراس في حملتها الانتخابية في أثناء الصيف، حين نافست على المنصب خلفا لبوريس جونسون، وذلك عندما تحدثت عن قلب "الاستراتيجية الاقتصادية لممارسة العمل التجاري كالمعتاد".
بل غدا بقاؤها في منصبها موضع شك، فهي تواجه انتخابات من المفروض أن تنظم في عام 2024، وأشار استطلاع للرأي أجري هذا الأسبوع، إلى أن حزب العمال المعارض يتقدم على حزبها بسبع عشرة نقطة، وهي النسبة الأعلى التي تسجلها مؤسسة يوغوف لاستطلاعات الرأي.
هذا مع العلم أن تراس كانت قد حُذرت من مثل هذا المآل. فبينما كانت منهمكة في حملتها الانتخابية للفوز بمنصب رئيس الوزراء هذا الصيف، وصف منافسها، وزير المالية ريشي سوناك، سياساتها الضريبية بأنها "حكاية من الخيال".
كما حذر الاقتصاديون من مؤسسة سيتي كورب بأن أفكارها تشكل "أكبر خطر من الوجهة الاقتصادية" على بريطانيا.
وقال مستشار سابق في حزب المحافظين، طلب عدم الإفصاح عن هويته؛ إنه ذهل بقرار الإعلان عن ميزانية مصغرة بدون بيان من المكتب المسؤول عن الميزانية.
كما اعتبر غياب بيان المكتب المسؤول عن الميزانية بمنزلة ازدراء للأسواق، ومؤشرا على أن الحكومة لم تر أنها بحاجة إلى إثبات أن حسبتها صائبة.
في الأسبوع الماضي خضعت مصداقية الحكومة للاختبار، ولربما كان ما ستخضع له في الأسبوع المقبل أشد وطأة.
تراس تبلغ لابيد تأييدها نقل سفارة بريطانيا للقدس المحتلة
MEE: متى سينظر إعلام بريطانيا للمسلمين على أنهم ضحايا؟
تعرف إلى أبرز التحديات التي أمام الملك تشارلز الثالث