"اتفاقية" مرت من تحت الرادار، لم تضبط وهي محملة بالخيبة والحسرة والدماء.
"اتفاقية" أخرجت الجني من القمقم، ولم يعد أحد يمتلك القدرة على ترميم الخراب الذي أحدثته وكمية الدموع التي نزفت على أكثر من 12 ألف فلسطيني وفلسطينية استشهدوا بنيران الاحتلال، وأكثر من 120 ألف معتقل، ومئات المستوطنات والبؤر الاستيطانية التي أقيمت على أرض فلسطين، منذ "اتفاقية أوسلو".
29 عاما من الفشل وبمحصلة سياسية صفرية لـ"اتفاقية" مسحت بممحاة سحرية جميع بنودها، وبقي الناجي الوحيد، وهو التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال.
عرفت إعلاميا بـ"اتفاقية" أو "معاهدة" أوسلو، لكنها على الأوراق المكتوبة والموقع عليها من قبل منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال تعرف رسميا باسم "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي".
بموجبها التزمت منظمة التحرير الفلسطينية على لسان رئيسها الراحل ياسر عرفات بـ"حق إسرائيل في العيش في سلام وأمن" والوصول إلى حل لكل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة من خلال المفاوضات، وبدء حقبة "خالية من العنف"، وطبقا لذلك فإن منظمة التحرير تدين استخدام "الإرهاب" وأعمال "العنف" الأخرى، وستأخذ على عاتقها إلزام كل عناصر أفراد منظمة التحرير بها و"منع انتهاك هذه الحالة وضبط المنتهكين".
وقرر الاحتلال على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني، وبدء المفاوضات معها.
وينص إعلان المبادئ الذي وقع في 13 أيلول/سبتمبر عام 1993، على إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطينية (أصبحت تعرف فيما بعد بالسلطة الوطنية الفلسطينية)، ومجلس تشريعي منتخب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، للوصول إلى تسوية دائمة بناء على قراري الأمم المتحدة 242 و338. بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.
ونصت الاتفاقية، على أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين.
نشأ انقسام في المعسكر الإسرائيلي بعد "إعلان المبادئ" فاليسار دعمه، بينما عارضه اليمين. وبعد يومين من النقاشات في "الكنيست" وافق عليه 61 عضوا وعارضه 50 آخرون، وامتنع 8 عن التصويت.
فلسطينيا كان الانقسام أكبر، فحركة فتح التي كانت طرفا في المفاوضات قبلت بـ"إعلان المبادئ"، بينما اعترض عليها كل من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وجبهة التحرير الفلسطينية.
"حماس" اعتبرت "أوسلو" باطلا ووصفته بـ "المشؤوم" تشبيها بوعد بلفور "المشؤوم" أيضا، كونه أعطى الاحتلال الحق في 78% من أرض فلسطين التاريخية، وقالت الحركة "إن ما بني على باطل فهو باطل"، و"شعبنا الفلسطيني لن يلتزم بما التزمت به المنظمة، ولن يعترف بأي نتائج تنتقص ذرة واحدة من تراب فلسطين أو مقدساتها".
وفجأة نزع الفدائي الفلسطيني لباسه المرقط، وخلع الحذاء العسكري، وألقى بالقبعة العسكرية "البريه" وارتدى بدلا منها البذلات الفاخرة وربطات العنق والأحذية الجلدية الناعمة، وكما قال المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: "منظمة التحرير الفلسطينية حولت نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة".
ورأى فريق فلسطيني وعلى رأسهم عرفات أن "أوسلو" قد يكون الجسر الذي يعيد منظمة التحرير إلى الداخل، وممارسة عملها من هناك.
أمسكت السلطة الفلسطينية بأظافرها وأسنانها بالتنسيق الأمني مع الاحتلال الذي كان واضحا بأنه يخدم الاحتلال ويضر بالفلسطينيين.
وفجر اقتحام رئيس حزب الليكود في حينه أرييل شارون المسجد الأقصى في 28 أيلول/ سبتمبر عام 2000، "انتفاضة الأقصى" أو "الانتفاضة الثانية"، وأعاد الجيش الإسرائيلي احتلال جميع المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية في الضفة، وانسحب عام 2005 بشكل أحادي من مستوطنات قطاع غزة.
جاء اندلاع "انتفاضة الأقصى" بعد أكثر من عام على انتهاء الفترة الانتقالية دون قيام "الدولة الفلسطينية"، وبعد شهور من فشل قمة "كامب ديفيد" بولاية ميريلاند الأمريكية عام 2000 نتيجة خلافات حول قضية القدس ورفض اعتبارها عاصمة للفلسطينيين.
جمعت القمة الرئيس الأمريكي حينها بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ورئيس السلطة الفلسطينية عرفات.
وثمة مئات التحليلات التي تناولت "أوسلو" ذهب معظمها إلى أن الاحتلال وجدها فرصة للاستمرار في الاستيطان والتهويد مع تخفيض أشكال النضال الفلسطيني، وتحييد حركة مسلحة كبيرة مثل "فتح" التي كانت فاعلة من خارج وداخل فلسطين.
ويقول مختصون بالشأن الفلسطيني إن "أوسلو" أعفت الاحتلال من أعباء احتلال شعب بأكلمه، إذ لم يعد يتحمل كلفة إدارة الحياة اليومية للشعب الفلسطيني كشعب محتل، وألقت ذلك على كاهل الفلسطينيين أنفسهم.
اقرأ أيضا: الذكرى الـ29 لإمضاء "اتفاق أوسلو".. هذا ما تبقى منه
الاحتلال والطرف الأمريكي قاما ببناء السلطة الفلسطينية بطريقة تخدم الاحتلال، وتريحه من العبء الأمني والمدني حتى إن كان ذلك ضد مصلحة الفلسطينيين، وأن يكون شريان حياة السلطة مربوطا بحبل من الاحتلال، في غياب عملية سياسية تنهي الاحتلال، أو توقف حمام الدم الذي فتحه الاحتلال في كل مكان في فلسطين.
"أوسلو" لم تعد قائمة قانونيا ولا سياسيا "فالمرحلة الانتقالية انتهت، وهناك شرط زماني ومكاني تم الإخلال به من الطرف الإسرائيلي". بحسب خبراء قانونيين.
وتبنى جزء من الأنظمة الرسمية العربية والإدارة الأمريكية وجهة النظر الإسرائيلية التي تفضل تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية دون دفع ثمن سياسي بعد دفن خيار "الدولة الفلسطينية" تحت حجارة الجدار العنصري العازل وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى جزر معزولة لا رابط بينها، وتوقيع "اتفاقيات إبراهيم" التي رفع الاحتلال بعد توقيعها منسوب الدم الفلسطيني، وباتت المعاناة الفلسطينية تقف على أبواب "انتفاضة ثالثة".
بعد 29 عاما من "أوسلو" يعود الفلسطينيون إلى المربع الأول وهو خيار المقاومة المسلحة التي بدأت تتصاعد في مدن الضفة وفي مقدمتها جنين ونابلس، مقاومة "مستقلة تنظيميا" أوجدت جيلا جديدا ومختلفا من المقاومين.