لم يعد سرا حقيقة تشكّل نظام إقليمي جديد في منطقة الشرق الأوسط، يكون النظام العربي تابعا له، لكن ليس بوصفه تكتلا واحدا، هذا النظام سيكون متعدد الأقطاب، لكن العرب ليسوا أحد أقطابه بقدر ما سيمثلون الأطراف المستقطبة، على ما تؤشر الديناميات الإقليمية الصاعدة.
ثمّة ثلاثة أقطاب تجهز نفسها لقيادة النظام الإقليمي والسيطرة عليه والتحكم بتفاعلاته، وهذه الأقطاب هي إسرائيل وإيران وتركيا، بالإضافة إلى تغلغل روسي صيني، ستكون له أدوار مهمة في إدارة الصراعات وضبطها، وربما ترسيم حدود السيطرة، ووضع قواعد اللعبة بين اللاعبين الأساسيين.
في هذا النظام الإقليمي، من الواضح تراجع التأثيرات الغربية التي طالما كان لها أدوار أساسية في صناعة السياسة، وتشكيل بنى الأنظمة السياسية وتحديد أدوارها، فالغرب عموما يتجه نحو فترة انكفاء مديدة، نتيجة ضغوطات داخلية على صناع القرار بإيلاء المسائل الداخلية أولوية خاصة، والابتعاد تاليا عن الانخراط في أزمات العوالم الأخرى.
في هذا النظام الإقليمي أيضا، ستتراجع فكرة القومية العربية إلى أبعد الحدود، ولن تشكل عاملا ذا قيمة في التحالفات الصاعدة، ومن المفارقة أن الأطراف الأخرى تبني سياساتها على أساس نهوض قومي تشهده هذه الدول، بل إن هذه السياسات قامت، بدرجة كبيرة، على أساس إحياء التراث القومي، وهذا ما نلحظه بشكل جلي في السياسات التركية والإيرانية والإسرائيلية.
لم يهبط هذا النظام الإقليمي من السماء فجأة، بل إن قواه الفاعلة قامت بهندسته عبر عمليات عديدة ممنهجة وفي إطار خطط بعيدة المدى، استخدمت خلالها تكتيكات العنف والدبلوماسية، مزيج من القوى الناعمة والخشنة، لعبت على أوتار الدين تارة والمصالح السياسية تارة أخرى.
غير أن الاستثمار الأهم لتلك الأطراف، تمثل في إدارة الأزمات التي ضربت الإقليم العربي في العقد الماضي، الذي شهد بروز الثورات المضادة في مواجهة المطالب الشعبية في التغيير، فكان أن نخب هذه الثورات المضادة وقادتها، ليس فقط أوصلوا العالم العربي إلى هذا المصير، بل تعمدوا صناعته لاعتقادهم أنهم يصنعون شبكات أمان تحميهم وتضمن بقاءهم في السلطة.
المؤكد أن هذا النظام الإقليمي لن يحل أي من الأزمات المستفحلة، لا في فلسطين أو سوريا أو العراق واليمن، بل سيحاول إدامة الأزمة فيها، إما بسبب الحاجة إليها لضبط التوازنات الإقليمية، أو لاعتبارها ساحات صراع بين اللاعبين الإقليميين تقيهم الصراع المباشر على أراضيهم.
مقياس القوّة في هذا النظام الإقليمي، يتمثل بحجم المكاسب العينية "أرض ثروات" تمت السيطرة عليها من العالم العربي، سواء بالاحتلال المباشر، أو عبر التوصل إلى اتفاقيات تتضمن مزايا استثمارية أو تجارية، أو حتى دفاعية، أو مكاسب معنوية تتمثل بالقدرة على التغلغل في فكر وقيم الشعوب العربية، وتشكيل أرصدة سياسية يمكن صرفها على شكل مصالح اقتصادية مستقبلية.
وقد استطاعت هذه القوى خلق توازنات بين أدوارها، وهي في طريقها للتصالح مع هذا الواقع، أما المزاحمات البادية بين إسرائيل وإيران، فهي نزاع الهدف منه توسيع مساحات السيطرة، أو منع الفريق الآخر من التأثير بمساحات السيطرة التي تخص الطرف الأخر، ودائما من الأرض والثروات العربية.
كيف وصلنا إلى هنا؟
بالدرجة الأولى، افتقد العرب لقراءات إستراتيجية معمقة للتحولات الحاصلة في البيئتين الإقليمية والدولية، لم يلحظوا التحولات الجوهرية والديناميكيات الجديدة، انشغلوا في صراعات بينية، وما زالوا، وانشغلوا بدرجة أكبر في الحفاظ على السلطة، وقمع أي مطالب بالتغيير والعدالة وحكم القانون، النتيجة الطبيعية لذلك خسارة الدول العربية لمكانتها وأدوارها، وتحولها إلى توابع لهذا الطرف الإقليمي أو ذلك.
وما يزيد من حدة الإشكالية التي يواجهها العالم العربي، هي الوقوف، أو حتى الإقامة في قلب المخاطر والانزلاق للفوضى، جراء السياسات التي تتبعها النخب الحاكمة، فأغلب البلدان العربية تقف على قدم واحدة متوجسة من شرارة قد تشعل حرائق لن يكون من السهل إطفاؤها، لذا تعمد النخب الحاكمة، في ما يشبه صناعة شبكة أمان لها، إلى تعزيز تبعيتها للخارج.
متى سيتمظهر هذا النظام الإقليمي الجديد؟
من الواضح أنه في نهايات صياغاته، وقد يكون التوصل إلى الاتفاق النووي بين إيران والغرب بمنزلة إعلان عن اشتغال هذا النظام وانطلاقه، وكذلك توضّح التفاهمات الروسية ـ التركية في سوريا، بالإضافة إلى ما ستؤول إليه مفاوضات تقاسم الغاز بين لبنان وإسرائيل، ومخاضات الصراع بين المغرب والجزائر والاستقطابات الحاصلة في قلب هذا الصراع.
المؤكد أن هذا النظام الإقليمي لن يحل أي من الأزمات المستفحلة، لا في فلسطين أو سوريا أو العراق واليمن، بل سيحاول إدامة الأزمة فيها، إما بسبب الحاجة إليها لضبط التوازنات الإقليمية، أو لاعتبارها ساحات صراع بين اللاعبين الإقليميين تقيهم الصراع المباشر على أراضيهم.
مؤشرات المصالح العربية والحاجة إلى مشروع إقليمي عربي
قيس سعيد.. المُخلّص يبحثُ خلاصًا
السُّعَار الصُّهيوني في فلسطين