ما من شك في أن الإعلام يضطلع بدور
حاسم في نجاح المشاريع السياسية والاقتصادية، ويشكل مع القوة العسكرية أهم مصدرين
للقوة في المجتمعات والدول، كما أن العلاقة بين النظامين السّياسي والإعلامـي،
عـلاقـة تأثير مـتـبـادل، غير أن حجم التأثير يختلف بين الطرفين وفـقاً لطبيعة
العلاقة بينهما، ووفـقاً لشكل النظام السياسي ودرجـة الديمقراطية التي يتمتع بها،
ودرجة الحرية السياسية التي يتمتع بها الإعلام في معالجة القضايا السياسية
والاجتماعية، وكذلك درجـة استجابة النظام السياسي لملاحظات وآراء وسائل الإعلام
تجاه القضايا، وتجاه الأداء الحكومي لتلك القضايا، ولعل العبء الأكبر في هذه
المقاربة يقع على السلطة السياسية باعتبارها صاحبة السلطة التنفيذية وتتحكم في
مفاصل الدولة إجمالاً.
في السودان وفي ظل أزمة سياسة تؤز
البلاد أزاً، تَشخصُ إشكاليات تحول دون دعم وسائل الإعلام المحلية لقضية الانتقال
الديمقراطي عقب التغيير السّياسي الذي حدث في أبريل 2019، وأطاح بنظام الرئيس
السابق عمر البشير. ولعل الإعلام السوداني ابتداءً وقبل كل شيء مطالب بحماية
المواطن البسيط من الاستغلال السياسي من لدن النخب السياسية المتعطشة لكراسي الحكم
بأي ثمن، لقد ذهب المفكر الفرنسي الشهير ولفريد باريتو في كتابه "عقل
المجتمع" إلى أن أغلبية الناس تحكمهم، في أغلب الأوقات، عواطف لا عقلانية،
ويعيشون نوبات من الهيستيريا والرعب والحماسة، تسهل عملية تلاعب النخب السياسية
بعواطفهم؛ لذلك حتى في حالة حدوث الثورة ونجاحها، فإن الحكم يؤول في النهاية إلى
نخبة سارقة لثورة البسطاء، تاركة الجماهير الضعيفة في معاناتها. علاوة على ذلك فإن
الدولة لا تنضج بدون إعلام يعي ما له وما عليه، ولا يتأتى ذلك إلا بمرجعية سياسية
تؤمن بالعمل الإعلامي باعتباره قريناً أساسياً لعمل الدولة، بل هو وجهها وأيقونتها
في زحمة التنافس والمغريات.
والمتتبع للشأن السوداني خلال فترة ما
بعد هذا التغيير يُدرك حجم الانسداد الذي يُكابده الأفق السّياسي، رغم الآمال
العريضة التي كانت معقودةً على استقرارٍ سياسي قائم على حكم ديمقراطي، يتيح تحريك
عجلة التنمية باستثمار موارد البلاد الطبيعية الضخمة؛ فرغم الفرح والآمال العراض
إلا أن الأوضاع في السودان لا يبدو أنها تسير إلى نهايات سعيدة، بسبب أخطاء وسوء
تقدير السلطات السياسية، بما فيها النخب والفعاليات السّياسية، وقد يتحمل الإعلام السوداني
جانبا من المسؤولية، أو أنه نفسه ضحية لاعتلال المشهد السّياسي برمته.
ولعل التحدي الأكبر لوسائل الإعلام في
السودان وفي الدول العربية الأخرى عقب ثورات الربيع العربي ظل متمثلا في البيئة
السياسية المثخنة بالخلافات العميقة بين مكونات الطبقات السياسية.
لقد حاولت دراسة صدرت حديثا للكاتب،
التعرف على الإشكاليات والتحديات التي تواجه وسائل الإعلام السودانية وتحد من
فعاليتها في دعم التحول الديمقراطي، وكذلك معرفة الأبعاد والتأثيرات السلبية
المتبادلة بين وسائل الإعلام السودانية والأوضاع السّياسية، فضلا عن التعرف على
مدى مساهمة السلطات السياسية (إيجابا أو سلبا) في التأثير على الدور الذي تضطلع به
وسائل الإعلام في زيادة الوعي السّياسي، وتضمنت الدراسة التقارير المهنية التي
تناولت فترة ما بعد التغيير السّياسي، والتي أشارت إلى تدهور أوضاع الصحافة
الورقية في السودان بشكل كبير، مما دفع سبعا من الصحف اليومية للتوقف عن الصدور،
وفاقم ذلك من ظاهرة هجرة الصحفيين نحو وظائف أخرى، بعضها شاق.
وعزا مختصون أزمة الصحافة السودانية
إلى 4 أسباب وهي: تراجع حجم الإعلان بنحو 60 %، وانخفاض التوزيع بمقدار 25 %،
إضافة إلى ارتفاع كلفة الإنتاج بأكثر من 50 % خلال الفترة ذاتها، وعدم توفر البيئة
المهنية والمادية اللازمة لاستقرار الكوادر الصحفية والفنية.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن معدل
التوزيع الحالي يتراوح بين 35 إلى 40 ألف نسخة يوميا وهو معدل منخفض جدا مقارنة
بعدد سكان السودان البالغ نحو 39 مليون نسمة، كما أنه بعيد عن المعيار العالمي
لمنظمة اليونسكو الذي يفترض معدلات توزيع 100 نسخة لكل ألف من السكان (عبد الرحمن،
2021). وليست معاناة الصحفيين ومضايقتهم مقتصرة على هذه التحديات فحسب، بل نجدها
ممتدة إلى إعاقة ممارسة مهامهم وأداء دورهم الرقابي.
لقد خلصت تلك الدراسة إلى أن الإعلام
السوداني لم يتمكن من دعم الانتقال الديمقراطي بسبب اضطراب هامش الحريات
الإعلامية، كما أن وسائل الإعلام السودانية فشلت في تشكيل رأي عام داعم للانتقال
الديمقراطي بسبب إرباك الخلافات السياسية العميقة للأداء الإعلامي، وبدا واضحا أن
الطبقة السّياسية لا تتفهم دور وسائل الإعلام إلا في إطار محاولة استغلالها
وتسخيرها لخدمة أجندتها الحزبية الضيقة، فهي لا تساعدها على القيام بدورها في إطار
قومي، ومن ثمّ لا تلتزم بتوفير المعلومة الصحيحة والبيئة التي تتيح التعبير عن
الرأي بموضوعية استنادا للمعلومة الصحيحة.
المطلوب أن يعمل الطرفان، الطبقة
السّياسية والإعلاميون على بناء وتعزيز الثقة بينهما لاسيما في هذا الظرف الحساس
الذي تمر به البلاد، مع وضعهما في الاعتبار أن حرية الإعلام ومهنيته، والتحول
الديمقراطي السلس الآمن، وجهان لعملة واحدة، وفي ذات الوقت على وسائل الإعلام
التحلي بالقدرة على تمثيل كافة الاتجاهات المختلفة داخل المجتمع السوداني؛ فمن
الضروري أن تتاح لهذه الاتجاهات فرصة الوصول إلى الجماهير، وأن تعرض أفكارها دون
أية قيود سواء بسبب السلطة الحاكمة أو بسبب تحيزات الإعلاميين السّياسية والفكرية.
نخلص إلى أن رفاهية الدول وتطورها
وأمنها مرهون باستقرارها السّياسي، ولا يتحقق الاستقرار السّياسي إلا بالوعي
السّياسي لكل قطاعات المجتمع: قيادات وأفرادا. ولكون أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين
السياسة والإعلام، فضلا عن مهمة الإعلام المرتبطة بإشاعة الوعي؛ فإن هناك مسؤولية
تضامنية ثقيلة تقع على عاتق كل من النخبة السّياسية لاسيما الحاكمة منها، ووسائل
الإعلام.