كان الغرض الرئيسي من الزيارة الأولى للرئيس الأميركي جو بايدن إلى الشرق الأوسط هو المملكة العربية السعودية، حيث كانت وجهته، مع التوقف في محطتين، هما إسرائيل والضفة الغربية.
ورغم أن الزيارة كانت بشكل عام خطوة نحو عودة أميركا إلى المنطقة، التي تقلصت مكانتها فيها بمقياس أولويات سياسة واشنطن الخارجية بشكل جديّ بعد التحول إلى آسيا، وعلى وجه الخصوص إلى الصين؛ فمن الواضح تماماً أن مهام رحلة بايدن السياسية كانت أوسع من الشرق الأوسط والمنطقة، فهي تشمل توسيع الجبهة المعارضة لروسيا، والتغلب على أزمة الطاقة، ورفع مستوى شعبية الرئيس الأميركي المتدهورة بشكل كبير في المجال السياسي المحلي. لهذا السبب، قرر الرئيس بايدن، كما يقولون في روسيا «أن يطأ على حنجرة أغنيته الخاصة»، ويقوم بدوران سياسي مؤلم.
بالطبع، جذب هذا الحدث انتباه الرأي العام في روسيا، لكن ليس لدرجة حجب كثير من الأحداث الأخرى، خصوصاً تلك المتعلقة بالشرق الأوسط، حيث تعززت مواقف موسكو في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ. والغالبية العظمى من المحللين الروس اعتبروا نتائج زيارة الرئيس الأميركي غير ناجحة، أو أنها في أفضل الأحوال لم تؤدِّ إلى إنجاز أي من المهام التي وضعت أمامها.
سيحاول الرئيس بايدن تفسير بعض نتائج زيارته لصالح تعزيز موقف حزبه وموقفه شخصياً في الولايات المتحدة، الأمر الذي يحمل أهمية خاصة، بالنظر إلى الانتخابات النصفية المقبلة للكونغرس الأميركي هذا الخريف، التي يمكن أن تلعب دوراً مهماً في الانتخابات الرئاسية لعام 2024.
ورغم أنه كان ينوي تحقيق أقصى ما أمكن من المكاسب من محادثاته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد، إلا أن التنافس في دعم إسرائيل مع الرئيس الأميركي الأكثر تأييداً لإسرائيل في كل العصور، دونالد ترمب، كان بلا جدوى. لقد تقلصت أهمية الخطاب المعادي لإيران في تطوير تحالف مع إسرائيل، نتيجة التزام إدارة بايدن المستمر بمشروع تجديد خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي)، وإن كان ذلك مع بعض التحفظات. بل كان «اللعب في الميدان الفلسطيني» أمراً لا أمل ولا جدوى منه. ببساطة، لم يكن هناك لدى الرئيس الأميركي ما يفعله من أجل الفلسطينيين، باستثناء تجديد الدعم لوكالة الأمم المتحدة في الشرق الأوسط لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، الأمر الذي كان قد رفضه ترمب في حينه. حتى الوعد بفتح قنصلية عامة للولايات المتحدة للفلسطينيين في القدس الشرقية لم يقم بايدن بالوفاء به، رغم بساطة هذا الإجراء وسلميته.
وتبقى هناك حقيقة أن الرياض وافقت على ما يبدو على طلب واشنطن بزيادة إنتاج النفط بنسبة 50 في المائة في الشهرين المقبلين، لكن هناك العديد من التفاصيل في هذا الإطار، التي يمكن أن تضعف أهمية هذا القرار الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة أيضاً؛ فكما هو معلوم، خلال إجابته عن الأسئلة، قال بايدن إن أسعار التجزئة للبنزين في محطات الوقود الأميركية باتت بالفعل تنخفض يومياً، ووعد بأن هذا الاتجاه سيستمر خلال الأسبوعين المقبلين. ومن المعلوم أيضاً أنه طالب حقاً أصحاب محطات الوقود بتخفيض الأسعار. لكن، هل سيساعد هذا في التغلب على الأزمة؟ على أي حال، عندما يكون ذلك مفيداً للسلطات الأميركية، فإنها تتخلى بسهولة عن الإجراءات التي اتخذتها في السابق. لقد رفعوا مؤخراً «المعاملات المتعلقة بإنتاج أو بيع أو نقل السلع والمعدات الزراعية والأدوية والمعدات الطبية» من قائمة العقوبات المفروضة على روسيا، علاوة على عدد من الأنواع الأخرى من المنتجات. بشكل عام، فإن مثل هذه القرارات لا يمكن إلا أن تكون موضع ترحيب.
أما قرار المملكة العربية السعودية بزيادة إنتاج النفط، فهو على أي حال لم يسبب أي قلق في موسكو؛ أولاً، لأن المملكة العربية السعودية لم تتراجع عن تنفيذ صفقة «أوبك بلس».
ثانياً، لأن روسيا تحترم الحق السيادي للدول المستقلة في تحديد سياساتها بناءً على مصالحها الوطنية، كما تراها حكوماتها.
ثالثاً، لأننا، وبعد هذه الزيادة في الإنتاج، سنواصل جني أرباح جيدة من إمدادات الطاقة لعدد كبير من البلدان.
رابعاً، لأنه في الوقت نفسه لم يذهب الجانب السعودي إلى إدانة السياسة الروسية تجاه الأزمة الأوكرانية، كما يود بايدن.
وإذا أضفنا إلى ذلك نتائج لقاء بايدن مع قادة عدد من الدول العربية، فإن ما يلفت الانتباه هو التالي: أولاً، لم يتم إنشاء معاهدة أمنية، أو ما أُطلق عليه اسم «ناتو عربي» في القمة، وهو الأمر الذي كثر الحديث عنه في وسائل الإعلام الأميركية في الآونة الأخيرة. حتى عامل التهديد الإيراني، وأهمية المواجهة التي عوّل عليها الرئيس الأميركي في تنفيذ هذا المشروع، لم ينجح. ثانياً، الفشل في توسيع منطقة التطبيع العربي - الإسرائيلي على حساب السعودية. ثالثاً، وعلاوة على ذلك، ذكّر الزعماءُ العرب بايدن بشدة بضرورة حل القضية الفلسطينية، التي لا تفعل إدارة الحزب الديمقراطي من أجلها شيئاً، مثلها مثل الإدارة الجمهورية السابقة.
لقد أعجبتني الطريقة الجريئة والمهذبة في آن التي قام بها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد بـ«طمأنة» الرئيس الأميركي، عندما ذكر بايدن «قضية خاشقجي»، في محاولة منه لحفظ ماء الوجه. عندها، ذكّر ولي العهد السعودي الضيفَ بسجن «أبو غريب» الأميركي سيئ السمعة في العراق، وبمقتل مراسلة «الجزيرة»، شيرين أبو عاقلة، في إسرائيل. بيد أنه، فقط ونظراً لأن الضيوف في الشرق يُعاملون دائماً باحترام، ولأن العلاقات مع الولايات المتحدة تحمل سمة استراتيجية بالنسبة للمملكة العربية السعودية، لم يذكر كثيراً من الأشياء الأخرى. هنا، مرة أخرى، يتبادر إلى الذهن مثل روسي معروف ومناسب للغاية: «يحق لأي بقرة أن تخور، لكن بقرتك أنت بالذات يجب أن تبقى صامتة».
بالطبع، كنا نود أكثر من ذلك. كنا نود أن تحشد جميع الدول العربية صفوفها وتطالب بالتنفيذ الصارم لقرارات مجلس الأمن الدولي بشأن الشرق الأوسط، تنفيذاً يؤدي في النتيجة إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة في المنطقة، وعاصمتها القدس الشرقية، وإلى تحرير الأراضي المحتلة (ليس فقط في فلسطين، بل وفي الجولان أيضاً). مع ذلك، فإن الآراء التي عبر عنها القادة العرب لا يمكن إلا أن تكون موضع ترحيب.
تجدر الإشارة إلى أنه في يوم السبت، 16 يوليو (تموز)، بعدما باتت نتائج زيارة بايدن إلى المملكة العربية السعودية معروفة، عرضت القناة التلفزيونية الروسية الرسمية، «روسيا 24»، فيلماً وثائقياً كبيراً عن أول سفير روسي لدى المملكة العربية السعودية، كريم حكيموف، سردت فيه، استناداً إلى وثائق أرشيفية، تاريخ العلاقات بين الدولة السعودية وروسيا والاتحاد السوفياتي. ويؤكد الفيلم، على وجه الخصوص، حقيقة أن موسكو كانت أول من اعترف بالمملكة، وتعاطفت منذ البداية مع سياسة التوحيد التي انتهجها الملك عبد العزيز بن سعود، ورغبته في إنشاء دولة مركزية قوية ذات سيادة في شبه الجزيرة العربية.
وأشار مؤلفو الفيلم إلى أن موسكو نجحت في حقبة ثلاثينات القرن الماضي، التي كانت صعبة على الدولة السوفياتية، ورغم العقبات التي وضعتها قوى ثالثة لمنع ذلك... نجحت في التجارة مع المملكة، وتزويدها بالسلع التي تحتاج إليها، لا سيما المواد الغذائية (بما في ذلك الدقيق)، والكيروسين، وغيرها. لقد بدا هذا الأمر بالغ الأهمية بالنظر للأزمة العالمية الحالية للغذاء والطاقة.
الشعب الروسي ممتن للعرب على موقفهم الثابت من السياسة الخارجية لبلادنا، ورفضهم إدانة روسيا في الأزمة الأوكرانية والانضمام إلى العقوبات ضد روسيا. وأنا على يقين من أن الامتنان والاحترام للشركاء السعوديين وإخوانهم في العالم العربي سيبقى في ذاكرة أحفادنا، وسيستمر في تعزيز علاقاتنا.