حسب معطيات مؤكدة، ألغى وفد صندوق النقد الدولي الذي زار تونس في 21 حزيران (يونيو) الماضي والتقى رئيس الجمهورية ورئيسة الحكومة الشرط الذي وضعه الصندوق في الخريف الماضي للتوصل إلى اتفاق بينه وبين الحكومة التونسية للتمويل مقابل "الإصلاحات"، وهو شرط موافقة الاتحاد العام التونسي للشغل على خارطة طريق الإصلاحات المقترحة. ودخل الصندوق في تفاوض مباشر مع الحكومة حول أجندة تنفيذ الإصلاحات المفروضة مقابل ضخ قروض بقيمة إجمالية قد تصل 4 مليار دولار، دون أن يكترث هذه المرة بموقف اتحاد الشغل.
لماذا حصل هذا التغيير؟
المعطيات التي بلغتنا تؤكد أن تغيير موقف الصندوق من ضرورة تشريك الاتحاد في التفاوض جاء على إثر تقدير سياسي جديد أُنجز في نيسان (أبريل) الماضي حول الإطار العام السياسي والاجتماعي في البلاد. ويبدو أنّ ذلك التقدير توصّل إلى اعتبار أنّ اتحاد الشغل فقد الكثير من قيمته الاعتبارية ومن قدرته على الضغط والمناورة وتعطيل الحكومة في صورة إقدامها على الاتفاق مع الصندوق.
الاتحاد لم يعد في عين صندوق النقد الدولي القوة القاهرة التي بإمكانها إفساد أي اتفاق بينها وبين الحكومة، مهما كان الاتفاق "قاسيا" ويتضمّن "إصلاحات" ذات فاتورة اجتماعية عالية. ولم يعد بالتالي مفروضا على حكومة الأمر الواقع الضعيفة التفاوض معه أولا والحصول على موافقته المسبقة على أجندة السنوات الأربع المطروحة.
لماذا تدهورت قدرة الاتحاد التفاوضية؟؟
لا شك أن التقدير السياسي للصندوق في موضوع الاتحاد انبنى على مواقف البيروقراطية النقابية وأدائها خلال الأشهر الماضية.
أداء مرتبك ومواقف متذبذبة ومتردّدة، تارة تندفع في دعم مسار 25 تموز (يوليو) والتماهي مع اجراءاته الاستثنائية، وطورا تحاول التمايز مع توجّهات الرئيس وزلاّته. تطالب بالحوار وترفض الإقصاء وفي نفس الوقت ترفض التعاطي مع قوى 24 تموز (يوليو) بمختلف أطيافهم خوفا من إغضاب صاحب الـ25. تندّد باللقاءات الدبلوماسية للمعارضة مع السفراء والوفود الأجنبية وفي المقابل تستقبل باحتفاء نفس الجهات وتجلس معها. تنتقد "ثغرات" دستور سعيد بلطف ولكنّها تميل إلى الدعم المبطّن لتحوير الدستور .. الخ.
الواضح أيضا أن حكومة بودن على ضعفها الشديد وعدم كفاءتها، افتكت زمام المبادرة من البيروقراطية النقابية، خاصة بعد أن أوقفت الدعم العمومي الموجه إلى الاتحاد (تحت ضغط مرصد رقابة) ومنعت المفاوضات المباشرة بين المنشآت العمومية والنقابات. ما جعل الاتحاد لأول مرة منذ الثورة في موقف مطلبي ضعيف، أمام حكومة هي الأضعف منذ قيام الثورة.
تذبذب وارتهان يوحيان بوجود تناقضات جوهرية ضمن صفوف البيروقراطية النقابية بين أشخاص يدعمون الانقلاب على الديمقراطية ويعتبرون مسار 25 تموز (يوليو) فرصتهم لتصفية حساباتهم مع خصومهم الأيديولوجيين، خاصة من القيادات المحسوبة على حزب الوطنيين الديمقراطيين وحركة الشعب، وآخرين يريدون مسك العصا من الوسط ويحاولون الحفاظ على دور الاتحاد الاعتباري كراع للحوار، ومحافظ على التوازن، وكابح لجماح السلطة. ويبدو واضحا للعيان أن التذبذب، ناتج عن الأخذ والرد وصراع ميزان القوى بين الجهتين والتوجّهيْن، وخوف كل جهة من غدر الثانية بها سواء بتواطئ مع القصر (كما حصل مع اتحاد الفلاحين) أو بنسج علاقة بالمعارضة الديمقراطية والخارج ومعادلاته المتقلّبة.
صراع النفوذ داخل القيادة النقابية، خاصة في أعقاب مؤتمري سوسة وصفاقس الاستثنائيين الذين دمّرا الحد الأدنى من الديمقراطية الداخلية في المنظمة وما أنتجاه من خلافات شخصية ونزاعات قضائية، دفعها إلى مواقف فاترة باردة أقرب إلى اللاموقف مثل رفض إبداء الرأي في موضوع الاستفتاء وترك الاختيار للقواعد النقابية.
صراع الأجنحة داخل الاتحاد والخوف من الانقسام دفع بالقيادة إلى "تخفيف اللغة" تجاه المفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد الدولي. وتجاه تعهدات قيس سعيد نفسه لمبعوثي الصندوق بقبول الإصلاحات المقترحة.
ولا يعود ارتباك الاتحاد وارتهانه، فقط لتباين وجهات النظر بين قياداته، وإنما أيضا لخوف تلك القيادات من موجة "التحطيم المؤسساتي" التي يمارسها سعيد التي شملت السلطتين التشريعية والقضائية والهيئات الدستورية والمنظمات والأحزاب، ورعبها من حملات التحريض والكراهية ضد الاتحاد المتوسّعة في الأوساط الشعبية سواء منها الداعمة لقيس أو المعارضة له، والتي تعتبر أنّ الاتحاد معقل للفساد وشريك في الفشل وسبب مباشر في أزمات البلاد خلال العشرية الماضية.
واضح جدا وعي البيروقراطية النقابية بأنّ قيس سعيّد يمسك بملفات عديدة تدينها، وواضح أكثر إدراكها بأنه قادر أن يستعمل ضدّها مستقبلا ما استطاع تدجينه من القضاء..
الواضح أيضا أن حكومة بودن على ضعفها الشديد وعدم كفاءتها، افتكت زمام المبادرة من البيروقراطية النقابية، خاصة بعد أن أوقفت الدعم العمومي الموجه إلى الاتحاد (تحت ضغط مرصد رقابة) ومنعت المفاوضات المباشرة بين المنشآت العمومية والنقابات. ما جعل الاتحاد لأول مرة منذ الثورة في موقف مطلبي ضعيف، أمام حكومة هي الأضعف منذ قيام الثورة.
هذا الوضع أنتج شعورا لدى الجميع (نقابيين وسلطة ومعارضة وسفارات ووفود الصندوق الدولي) أن اتحاد تموز (يوليو) 2022 لم يعد يشبه اتحاد تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، وأنه فقد أنيابه وقدرته على الضغط والتعطيل، وأن وضعه الداخلي أصبح هشا، وشرعيته الشعبية والنضالية انهارت بشكل يجعله فاقدا مستقبلا للتأثير الجدي في الوضع.
ولهذه الأسباب لم تعد موافقة الاتحاد على أجندة الصندوق مشروطة..
هل البيروقراطية النقابية مدركة للمأزق الذي وضعت نفسها فيه؟؟
رغم محاولات التمويه والتغطية تارة بخطابات الحكمة وتغليب المصلحة الوطنية وطورا بلغة التصعيد والتسخين، تبدو قيادات الاتحاد مدركة أن وضعها صعب جدا، وأن قدرتها على المناورة صارت محدودة في ظل الانقسام الداخلي والنقمة الشعبية، وأن الاتحاد مقبل على أحلك أيامه منذ محنة "الشرفاء"! في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
إدراك قيادة الاتحاد لخطر فقدانها لورقة الردع الداخلية دفعها إلى محاولة الاستقواء بقوى خارجية (اللقاء مع السفارات والوفود الأجنبية والزيارة إلى الجزائر) للإبقاء على حدود من التأثير المتآكل والحصول على حماية من مخططات الاستهداف.
حاولت القيادة النقابية أولا التأثير على موقف صندوق النقد الدولي وإعادة فرض نفسها شريكا في التفاوض عبر خوضها إضرابا عاما للقطاع العمومي وإغلاق المطار في 16 حزيران (يونيو) قبيل قدوم وفد الصندوق لتونس. ولكن الواضح أن ذلك التحرك الأقصى لم يغيّر المعادلة بل كشف أكثر ضمور وتراجع قدرة الاتحاد على التحشيد، وعجزه في المستقبل القريب على تحريك الشارع وإيقاف مسار "إصلاحات" غير شعبية ذات فاتورة اجتماعية مكلفة جدا. وزاد في قناعة صندوق النقد الدولي بقدرة نظام قيس سعيد على تمرير الإصلاحات المؤلمة دون صعوبة، بعد مهلة إلى حين "استكمال الإصلاحات الدستورية والسياسية" حسب ما فهم من كلام جهاد أزعور مسؤول الصندوق بعد مقابلته للرئيس سعيد يوم 21 حزيران (يونيو) الماضي.
فالإضراب العام لم يكن مؤثرا لأن مطالبه المعلنة كانت فاترة دون روح (إلغاء المنشور 20، وإلغاء الاقتطاع الإجباري 1 بالمائة وغلاء الأسعار، وإصلاح المؤسسات العمومية) ومطالبه تحت الطاولة كانت مخزية (استئناف التمويل العمومي المتوقف..). وأي إضراب قادم سيكون مصيره الفشل الذريع ومزيد التآكل لقدرات الاتحاد الردعية.
إدراك قيادة الاتحاد لخطر فقدانها لورقة الردع الداخلية دفعها إلى محاولة الاستقواء بقوى خارجية (اللقاء مع السفارات والوفود الأجنبية والزيارة إلى الجزائر) للإبقاء على حدود من التأثير المتآكل والحصول على حماية من مخططات الاستهداف. ولكن لا نظن تلك القوى الخارجية التي تتابع الوضع المحلي عن قرب غافلة عن عجز الاتحاد في ظل وضعه الراهن وتوازناته الهشة على تحقيق التوازن المنشود في البلاد.
ما هو مستقبل الاتحاد في ظل القيادة الحالية والسلوك الحالي؟
تبدو القيادة الحالية للاتحاد فاقدة للسند الشعبي، والشرعية القاعدية، بعد اغتيالها سنة التداول القيادي في المنظمة، وفاقدة للشرعية النضالية بعد ارتهانها التام طيلة عام كامل تقريبا وسكوتها عن انتهاكات عديدة لحقوق الشغيلة وعموم المواطنين. قيادة فرّطت بغباء شديد في شرعية "الخيمة" ورعاية الحوار التي كانت سر قوتها في السنوات الماضية، كما فرطت في الشرعية الديمقراطية وإرث الحفاظ "الشكلي" على دولة القانون والمؤسسات، وكل يوم تبتعد أكثر عن استحقاق الشفافية والحوكمة الرشيدة وتغرق أكثر في المحسوبية والفساد. كل هذا يدفع للتوقع أن المنظمة النقابية ستشهد خلال ولاية هذه القيادة انتكاسات غير مسبوقة.
الخلاصات
لا شك أن القيادة النقابية الحالية بصدد تدمير إرث الاتحاد الكبير ودوره الوطني في حماية حقوق العمال والدفاع عن معيشة التونسيين والتصدي للسياسات الليبرالية المتوحشة والحفاظ على الاستقرار وتحقيق التوازن مع السلطة واللوبيات النافذة.
هذه القيادة الضعيفة والمخترقة، بتيارات أيديولوجية حدية، أفقدت الاتحاد وحدته وشرعيته الداخلية، وأفقدته دوره الوطني في حماية الدولة ومؤسساتها والدفاع عن الثوابت والحريات والديمقراطية، وبددت مكانته كخيمة جامعة للقوى السياسية والاجتماعية وكراع للحوار الوطني حاصل على جائزة نوبل للسلام بفضل تلك الصفة، وأفقدته نفوذه وقوته الردعية.
هذه القيادة كما هي سابقتها، أضاعت على الاتحاد فرصة الإصلاح الداخلي والانفتاح والشفافية والتخلص من ممارسات المحسوبية والفساد بعد الثورة، وأضاعت عليه فرصة التحول الى قوة اقتراح وضغط لإصلاح الدولة ومؤسساتها ومنشآتها ومغادرة مربع التنفّع والابتزاز، والتمسك بالوضع الراهن للمحافظة على الامتيازات الشخصية والقطاعية.
لا شيء في الأفق اليوم يوحي بإمكانية استعادة الاتحاد سريعا لصورته ومكانته وتأثيره. على العكس تماما، يبدو اتحاد الشغل مؤهلا ليعيش، تحت القيادة الحالية، مصير الانقسام والتفكك الذي عاشته أو تعيشه أغلب مؤسسات البلاد.. وهو أمر يبدو منسجما مع طبيعة هذه المرحلة ومخططاتها: مرحلة الهدم الممنهج لكل أسس دولة الاستقلال من مؤسسات وهيئات ومنظمات وأحزاب ونخب وقوانين. في انتظار قدوم مرحلة بناء بأيادي فاعلين آخرين قادرين على البناء فوق الخراب.
الفذلكة الدستورية بين تونس وسوريا
وهم العملية التفاوضية في الثورة السورية.. الأسباب والعلاج
الحركات الإسلامية والقرارات السياسية