هذه
مختارات من الشعر المجاز، و إجازة الشعر هي أن يطلب طالب من شاعر أن يجيز بيتا أو صدرا
من الشعر فيجيزه، وكان العرب أهل بيان، وهي صناعتهم الأولى، والشعر ديوان العرب، سجل
أيامهم وأفعالهم ومفاخرهم وأهاجيهم، وسأذكر في هذا المقال بعضا من الأشعار القاتلة،
مذكرا بقصة من ألف ليلة وليلة، وهي قصة الملك رويان والحكيم يونان، التي اقتبسها امبرتو
ايكو لرواية "اسم الوردة" وصارت فيلما مثّله شون كونري، وفيها يأمر الملك
يونان بقتل الحكيم رويان فيوصي بكتاب، فيفتحه الملك، ويبلُّ إصبعه بريقه، ويموت بالكتاب
المسموم، ويقع انتقام الحكيم رويان.
في هذا
المقال أشعار فيها عسل وأخرى مسمومة، وأشهر الأشعار المسمومة؛ أن صحب رجلٌ كبير المال
عبدين في سفر، فلما توسَّطا الطريق همَّا بقتله، فلما صحَّ ذلك عنده قال: أقسم عليكما
ـإذا كان لابدَّ لكما من قتليـ أن تمضيا إلى داري، وتنشدا ابنتيَّ هذا البيت! قالا:
وما هو ؟ قال:
من مبلغٌ
بنتيَّ أن أبـاهما للهِ درُّكما ودرُّ أبيكمـا
فلما
قتلاه جاءا إلى داره، وقالا لابنته الكبرى: إن أباك قد لحقه ما يلحق الناس، وآلى علينا
أن نخبركما بهذا البيت! فقالت الكبرى: ما أرى فيه شيئـًا تخبراني به، ولكن اصبرا حتى
أستدعي أختي الصغرى.
فاستدعتها
فأنشدتها البيت، فخرجت حاسرة، وقالت: هذان قتلا أبي يا معشر العرب، ما أنتم فصحاء،
قالوا: وما الدليل عليه؟ قالت: المصراع الأول يحتاج إلى ثانٍ، والثاني يحتاج إلى من
يكمله، ولا يليق أحدُهما بالآخر، قالوا: فما ينبغي أن يكون؟ قالت: ينبغي أن يكون:
من مخبرٌ
بنتيَّ أنَّ أباهمـا ........... أمسـى قتيلاً بالفلاة مُجنـدلا
لله
درُّكمـا ودرّ أبيكمــا............ لا يبرحَ العبدان حتى يُقتـلا
فاستخبروهما
فوجدوا الأمر على ما ذكرتْ، ورويت القصة في سيرة المهلهل أيضا.
من شابه
أباه:
تقول
رواية أن المتنبي كان يوماً جالساً بواسط فدخل عليه بعض الناس، فقال أريد أن تجيز لنا
هذا البيت، وهو:
زارنا
في الظلام يطلبُ سِترا ... فافتضحنا بنوره في الظلام
فرفع
رأسه، وكان ابنه المحسد واقفاً بين يديه، وقال له: يا محسد: قد جاءك بالشمال، فأته
باليمين، فقال ارتجالا:
فالتجأ
إلى حنادس شعر ... سَتَرَتنا عن أعين اللوَّام
ومعنى
قول المتنبي لولده جاءك بالشمال فأته باليمين، أي أن اليسرى لا يتم بها عمل، وباليمين
تتم الأعمال، ومراده: أن المعنى يحتمل الزيادة، فأوردها، وقد لطف في الإشارة.
امرؤ
القيس يجري فحصا للحمض النووي لبناته بالشعر:
قال
عبد الله بن مسلم بن قتيبة: كان امرؤ القيس بن حجر مئناثاً لا يولد له ذكر، وكان غيوراً
شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنت قتلها. فلمّا رأى نساؤه ذلك غيّبن بناتهنّ في أحياء
العرب. وبلغه ذلك فركب راحلته وخرج مرتاداً لهنّ حتّى أناخ على حيٍّ من أحياء العرب،
وإذا جوار مجتمعاتٍ، فقال: أيّتكنّ تجيز لي هذا البيت ولها راحلتي؟ فسكتن عنه، وقالت
ابنته (التي لا يعرف): هات. فأنشأ يقول:
تبلت
فؤادك إذ عرضت عشيةً ... بيضاء بنهكة عليها لؤلؤ
قال:
فسكتت ساعة، ثمّ قالت:
لعقيلة
الأدحي بات يحفّها ... كنقا الظّليم وزال عنها الجؤجؤ
فضربها
بالسّيف فقتلها. وسار حتّى نزل بحيٍّ آخر، فإذا بجوارٍ يلعبن فقال: أيّتكنّ تجيز لي
هذا البيت ولها راحلتي؟ فسكتن عنه، وقالت ابنته (التي لا يعرف): هات. فقال:
إذا
بركت تعالى مرفقاها ... على مثل الحصير من الرّخام
فسكتت
ساعةً، ثمّ قالت:
وقاموا
بالعصي ليضربوها ... فهبت كالفنيق من النّعام
قال:
فقتلها، ثمّ سار حتّى نزل بحيٍّ آخر، فإذا بجوارٍ يلعبن. فقال: أيّتكنّ تجيز لي هذا
البيت ولها راحلتي؟ فسكتن عنه. وقالت ابنته: هات. فقال:
وكأنّهنّ
نعاج رملٍ هائلٍ ... بدفٍّ يمدن كما يميد الشّارب
فسكتت
ساعةً، ثمّ قالت:
بل هي
أقرب في الخطا من خطوها ... إنّ الخرائد مشيها متقارب
قال:
فنزل إليها فقتلها وسار.
همّ
بقتل ابنته من أجل ضحكة ضحكتها:
ومن
أشرف الناس همة عقيل بن علّفة المرّيّ؛ وكان شاعرا، أعرابيا، يسكن البادية وكان يصهر
إليه الخلفاء، وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده فقال له جنّبني هجناء
ولدك.
ومن
همته أنه قيل له: لو زوّجت بناتك! فإنّ النساء لحم على وضم إذا لم يكنّ غانيات! قال:
كلا، إنّي أجيعهنّ فلا يأشرن، وأعريهنّ فلا يظهرن، ومن غيرته أنه خطب إلى عقيل بن علّفة
بعض بناته رجل من الحرقة من جهينة، فأخذه فشدّه قماطا، ودهن استه بربّ وقمطه وقرّبه
من قرية النّمل، فأكل النمل حشوة بطنه!
وَكَانَ
إِذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء مَعَه فَخرج مرّة فنزلوا ديرا من أديرة الشَّام
يُقَال لَهُ دير سعد فَلَمَّا ارتحلوا قَالَ عقيل:
قضيت
وطرا من دير سعد وَرُبمَا علا عرض ناطحنه الجماجم
ثمَّ
قَالَ لِابْنِهِ أجز يَا عُمَيْس:
فَقَالَ:
فَأَصْبَحْنَ بالموماة يحملن فتية نشاوى من الإدلاج
ميل العمائم
ثمَّ
قَالَ لابنته يَا جرباء أجيزي فَقَالَت:
كَأَن
الرى أسقاهم صر خدية عقارا تمشت فِي المطا والقوائم
فَقَالَ
لَهَا وَمَا يدْريك أَنْت مَا نعت الْخمر؟ ثمَّ سل السَّيْف ونهض إِلَيْهَا فاستغاثت
بأخيها عُمَيْس فانتزعه بِسَهْم فَأصَاب فَخذه فبرك ومضوا وتركوه حَتَّى إِذا بلغُوا
أدنى الْمِيَاه قَالَ لَهُم إِنَّا أسقطنا جزورا لنا فأدركوه وخذوا مَعكُمْ المَاء
فَفَعَلُوا وَإِذا عقيل بَارك وَهُوَ يَقُول:
إِن
بنى زملونى بِالدَّمِ من يلق أبطال الرِّجَال يكلم وَمن يكن دَرْء بِهِ يقوم شنشنة
أعرفهَا من أخزم
غلطة
في مجلس هشام بن عبد الملك:
ورد
أَبُو النَّجْم على هِشَام بن عبد الْملك فِي الشُّعَرَاء فَقَالَ لَهُم هِشَام:
صفوا
إبِلا فقيظوها وأوردوها وأصدروها حَتَّى كأنني أنظر إِلَيْهَا فأنشدوه وأنشده أَبُو
النَّجْم:
(الْحَمد
لله الْعلي الأجْلِلِ ... )
حَتَّى
إِذا بلغ إِلَى ذكر الشَّمْس فَقَالَ
(فِهيِ
عِلى الأُفقِ كِعين ... . . .. )
فَأَرَادَ
أَن يَقُول الْأَحول ثمَّ ذكر حول هِشَام فَلم يتم الْبَيْت وأرتج عَلَيْهِ فَقَالَ
هِشَام أجز فَقَالَ كعين الْأَحول وَأمر القصيدة فَأمر هِشَام بوجء عُنُقه وإخراجه
من الرصافة وَقَالَ لصَاحب شرطته يَا ربيع إياك وَأَن أرى هَذَا فَكلم وُجُوه النَّاس
صَاحب شرطته أَن يقره فَفعل فَكَانَ يُصِيب من فضول أَطْعِمَة النَّاس ويأوي الْمَسَاجِد.
ما ضره
لو قال كعين الأكحل، لكن حضر القدر فعمي الشعر.
الخليفة
المأمون يتقي لسان دعبل الخزاعي:
وَكَانَ
أَبُو عباد إِذا دخل على الْمَأْمُون يَقُول لَهُ الْمَأْمُون: مَا أَرَادَ مِنْك دعبل
حَيْثُ قَالَ لَك:
(وَكَأَنَّهُ
من دير ... هزقل مفلت)
فَيَقُول
أَرَادَ منى الذي أَرَادَهُ من أَمِير الْمُؤمنِينَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ:
(إنى
من الْقَوْم الَّذين سيوفهم ... قتلت أَخَاك وشرفتك بمقعد)
(شادوا
بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد)
فَقَالَ
لَهُ الْمَأْمُون إنى عَفَوْت عَنهُ فَلَا تعرض لَهُ وَلَك فيَّ أُسْوَة حَسَنَة، وَكَانَ
الْمَأْمُون إِذا أنْشد هَذَا الشّعْر يَقُول فِيهِ سُبْحَانَ الله أما يستحى دعبل
من الْكَذِب مَتى كنت خاملا وَبدر الْخلَافَة غذيتُ وفي حجرها ربيتُ خَليفَة وَابْن
خَليفَة وَآخر خَليفَة.
ولم
أجد مصنفات عربية في الشعر المجاز، وفيه أبيات بجوائز سنية، وأبيات جزيت بالزواج مثل
الرميكية التي تزوجت من الصاحب بن عباد بعجز بيت، وأبيات انجت من القتل.