قمت في صيف عام 1992 بزيارة إلى تونس برفقة المرحوم الأخ فيصل الحسيني والأخت د. حنان عشراوي، كما أذكر، وتوجهنا فور وصولنا إلى مكتب الرئيس أبي عمار للسلام عليه. ورغم الترحيب الذي حظينا به من قبله إلا أننا شعرنا أن هناك شيئا في الجو يقلقه. وحين خرجنا من عنده أعلمنا مدير مكتبه الأخ د. رمزي خوري بأن الرئيس دعا لاجتماع اللجنة التنفيذية وأن عددا من أعضائها رفضوا تلبية الدعوة مما عطل النصاب القانوني للاجتماع.
فاقترح الأخ فيصل أن نقوم بجهود وساطة وقمنا بالفعل بزيارة مكتب كل من الأعضاء "الحردانين" وأخيرا تم عقد الاجتماع وبنصاب كامل. ولا أدري إن كان التئام الاجتماع وبنصاب كامل كان ثمرة لجهودنا، أم أنه كانت هناك جهود موازية لجهودنا أسهمت مع جهودنا في تحقيق انعقاد الاجتماع. وقد دعينا لحضور اجتماع اللجنة التنفيذية تكريما ً لنا لأننا ضيوف من الأرض المحتلة. فشاركنا في الاجتماع دون أن نشترك في التصويت على القرارات.
توقعت بعد انتهاء الاجتماع أن يقوم الأعضاء بمغادرة المكان ولكنني فوجئت بأنهم جميعا توجهوا إلى الرئيس واصطفوا أمامه وفي يد كل واحد منهم رزمة من الورق. وأذكر أن البعض بدأ بممازحة المرحوم ياسر عمرو ويدعوه لاختصار بعض الأوراق التي يحملها لكيلا يطول انتظارهم.
كنت حديث العهد بالعمل وراء كواليس القيادة الفلسطينية ولم أفهم ماذا يجري ولكن المرحوم الأخ فيصل همس في أذني ونحن نغادر المكان بأن كل واحد منهم يريد ثمن حضوره للاجتماع وأن هذه الأوراق التي جعلوا الرئيس يوقعها تتضمن مساعدات مالية وترقيات وتعيينات وتذاكر طيران وبدل سفريات وغير ذلك.
الفصائل وقبض الثمن
تذكرت هذه الحادثة وأنا أقرأ عن أسباب قرار قيادة الجبهة الديمقراطية حضور اجتماع المجلس المركزي بعد أن تحقق لها صرف الميزانيات التي كانت مجمدة والتي تبلغ على ذمة البعض عشرة ملايين دولار واستئناف صرف الميزانيات الشهرية بشكل منتظم، وبعد أن حصلوا على تعهد من القيادة بإسناد منصب نائب رئيس المجلس الوطني إلى أحد قيادات الجبهة الديمقراطية بعد أن كان من نصيب الجبهة الشعبية على مدى عشرات السنين.
والمتابع لتاريخ المجلس الوطني والمجلس المركزي يعرف بأن عدد أعضاء المجلسين ظل في تزايد مستمر من خلال الإرضاءات أو الترضية التي كانت تتم في كل مرة عندما تكون هناك أزمة نصاب وأزمة حضور إلى أن تجاوز عدد أعضاء المجلس الوطني ثمانمائة عضو. فبرزت فكرة تخويل بعض صلاحياته للمجلس المركزي انتهاء باستيلاء المجلس المركزي على جميع صلاحيات الوطني وهذا ما يحدث الآن، مما يجعل الكثيرين يعتقدون بأن ما يجري هو إلغاء للمجلس الوطني بحكم الأمر الواقع.
كانت ترضية الفصائل هي الوسيلة لتحقيق شرعية مقولة أن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد وكانت هذه المقولة مهمة جدا لإضفاء الشرعية الوطنية على قرارات المنظمة وخاصة ما يتعلق بالشق السياسي رغم أن فتح كانت تملك القرار داخل المنظمة، ولكنها كانت بنفس الوقت تحاول الظهور بأنها لا تريد التفرد بالقرار. فقد كان مهما ً جداً تمرير القرارات بدعم كافة الفصائل الوطنية أو معظمها.
تغيّر علاقات القوى داخل المنظمة
ولكن هذا الواقع تغير للأسباب التالية:
أولا ً، لم تعد جميع الفصائل الوطنية ذات وجود على الأرض بل إن معظمها أصبح مجرد مكتب وأمين عام وميزانية تتحكم بها قيادة المنظمة وكل من يحاول الخروج عن الصف يتم تجميد ميزانيته وسحب الامتيازات التي يتمتع بها أفراد قيادته ومن ضمنها هذه الأيام ال VIP والإعفاءات الجمركية وغير ذلك. وأصبحت بعض هذه الفصائل صوتا مضمونا ً في جيب فتح تستخدمه لتمرير ما تريد. ولا أبالغ إذا قلت إن الناس لم تعد تذكر أسماء القادة الحاليين لبعض هذه الفصائل وأنها لو شاركت في انتخابات حرة ونزيهة فإن معظمها لن تجتاز نسبة الحسم.
وبدون ذكر الأسماء فإن عددا من قادة هذه الفصائل الصغيرة، وبعضهم يتبوأ عددا من المواقع المفصلية الهامة في دوائر صنع القرار وتنفيذه، يشاركون في صنع القرارات المصيرية للشعب الفلسطيني وقضيته دون أن تكون لهم قاعدة شعبية يرتكزون عليها. وأستثني من هذا بالطبع الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب.
قوى تتلاشى وأخرى صاعدة
وفي مقابل الفصائل التي ذوت ودخلت مرحلة التلاشي ولم يعد لها سوى العيش على أمجاد الماضي فإن هناك قوى صعدت وأثبتت وجودها على الساحة وهي، شئنا أم أبينا، تمثل شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني وأقصد بالتحديد حركتي حماس والجهاد الإسلامي. ووجود هاتين القوتين الرئيسيتين خارج إطار منظمة التحرير ومؤسساتها يضعف من قدرة المنظمة على الادعاء بأنها تمثل الكل الفلسطيني.
إذن وفي الإطار العام، فإن وجود فصائل ممثلة باللجنة التنفيذية وفي المركزي والوطني، بموجب كوتات آن الأوان لإعادة النظر فيها، وغياب قوى فاعلة ورئيسية على الساحة هو خلل لا بد من معالجته ووضع حد له.
وإضافة لما ذكر أعلاه فإنه لا بد من القول والإقرار دون أدنى شك بأن حركة فتح وبالرغم من أي شيء، هي الفصيل الرئيسي على الساحة وأنه حتى لو اجتمعت جميع القوى الوطنية وحركتي حماس والجهاد معا ً، فإنها جميعا لا تستطيع إلغاء دور فتح أو أن تكون بديلا ً لها لأن فتح استطاعت أن تتحول الى حالة ذهنية للشعب الفلسطيني وهي مصدر الشرعية الذي لا يُنازع. ولعل الجميع يُدرك هذه الحقيقة ويُدرك أن فتح في صورتها التي ارتسمت في الوعي الوطني الفلسطيني هي وستبقى مصدر الشرعية.
التصدع والصراع داخل فتح
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: وماذا بشأن ما يجري داخل حركة فتح من صراعات وانقسامات وصلت حد التشرذم من جهة ومن جهة أخري جعلت العديد من الكوادر القيادية التي تعمد نضالها بالأسر وبقضاء سنين طويلة في المعتقلات والسجون والإبعاد وبعضها أصيب جسديا الى حد الإعاقات البدنية، جعلتهم يتنحون جانبا ولا ينحازوا لأحد من القوى المتصارعة داخل فتح وهم في نفس الوقت محبطين وممتعضين ومستفزّين مما آل إليه مصير الحركة.
فتح التي أذكر أن الرئيس الشهيد أبو عمار وصفها في أحد الاجتماعات، وكنت حاضرا، بقوله "واثق الخطوة أمشي ملكا"، فتح هذه تعاني اليوم من التصدع الداخلي ومن خروج أو إخراج العديد من قياداتها وكوادرها إلى خارج الحركة. وفي غياب من خرجوا أو أخرجتهم الحركة فإن فتح المختزلة لا تستطيع العمل بنفس القدر والقوة والصفة التمثيلية التي كانت تعمل بها قبل أن يصيبها "فيروس" الانقسام الداخلي، ولا تستطيع أن تُنكر ما حل بها.
على ضوء كل المعطيات السابقة فإنني أعتقد بأن استمرار تجاهل اللوائح والأنظمة الخاصة بمؤسسات المنظمة وبحركة فتح والتغول على المناصب والمكاسب الشخصية في غياب العمل المؤسساتي لن يؤدي في النهاية إلا الى الكارثة.
وعليه فإنني أعتقد أن انعقاد المجلس المركزي في هذه المرحلة سيزيد من الشرخ داخل حركة فتح وبين فتح والقوى الأخرى، وسيشكل ثغرة يحقق من خلالها الاحتلال المزيد من الاختراقات والمكاسب التي تتفق مع سياسة تذويب القضية من خلال تبني سياسة بينيت-جانتس التي تباركها أمريكا والتي يصطلحون تسميتها تقليص الصراع Shrinking The Conflict. والتي أصبحت اليوم توراة اليمين الإسرائيلي بقيادة نفتالي بينيت والذي يرى في كتاب Micah Goodman من مدرسة الحاخام Shalom Hartman والذي يحمل نفس العنوان أعلاه دستورا وخطة لتصفية القضية الفلسطينية.
مقترح للعمل فهل من مجيب؟
للخروج من المأزق الحالي فإنني أقترح وبكل تواضع تبني خطة العمل التالية والتي هي مطروحة للنقاش برسم التعديل والتغيير طالما أن الهدف هو الخروج من عنق الزجاجة الذي نجد أنفسنا فيه رهن الاختناق لا سمح الله. والخطة المقترحة هي:
دعوة كافة الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية للتوقيع على وثيقة عمل وطني تقوم على الأسس التالية.
إجراء انتخابات للمجلس التشريعي وللبلديات تُشارك بها كافة الفصائل والقوى في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس. كخطوة أولى تليها بعد ستة أشهر إلى سنة انتخابات رئاسية.
اعتبار حصة الضفة والقطاع بالمجلس الوطني هي بنسبة الثلثين من أعضاء الوطني والثلث الآخر للشتات. واقتصادا ً في النفقات واختصارا ً للوقت فإن من الممكن اعتبار أعضاء المجلس التشريعي من الضفة والقطاع والقدس هم حصتها في المجلس الوطني واجراء انتخابات لاختيار ممثلي شعبنا في الشتات حيث يمكن ذلك، واتباع الأساليب التي كانت متبعة سابقا لاختيار ممثلي المناطق التي يتعذر إجراء انتخابات فيها لخصوصية أو حساسية جغرافية أو سياسية كالأردن مثلا.
بعد إجراء الانتخابات للمجلسين التشريعي والوطني نستطيع القول بأن لدينا ممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني ونستطيع التقدم نحو إعداد برنامج نضالي وخطة عمل وطني يحظى بتأييد الأكثرية داخل المؤسسات المنتخبة ولا يحق لأي فصيل أو حركة رفض قرار الأكثرية واعتباره بالإجماع خارجا ً عن الصف الوطني إذا لم يحترم ويلتزم بقرار الأكثرية.
وإلى أن يتم ذلك فلا داعي لعقد جلسة للمجلس المركزي في الوقت الحالي وإذا كان لا بد من ملء الشواغر التي حدثت نتيجة للوفاة أو عدم القدرة على الاستمرار في العمل فلتكن الجلسة استثنائية لملء هذه الشواغر إلى حين اجراء الانتخابات. وفي نفس الوقت لتكن هذه فرصة لحركة فتح لكي تعيد لملمة صفوفها ووضع حد للانقسامات والصراعات داخلها. وعلى قيادتها أن تلتزم بلوائح الحركة وأن تلتزم بالعمل الديمقراطي داخلها علما بأن التجربة التاريخية لحركة فتح أثبتت بأن من يخرج على الحركة يفقد قدرته على التأثير من داخل القلعة ويلغي دوره فيها ويلقي بنفسه الى هوامش التاريخ.