تنظيم عشوائي. هكذا استقرت تسمية محاولتي، فقد شرعت منذ بضعة أشهر في محاولة وضع تنظيم "منضبط" لساعات النهار، وخصصت ساعتين: الأولى للسماع، والثانية للنظر، سماع موسيقى وغناء متنوع من نتاج مختلف العصور والأنواع، ففي يوم تكون الساعة من نصيب محمد عبد الوهاب، وقد يليه حمو بيكا، وربما شوبان، ساعة النظر، هي الأخرى على نفس المنوال، ساعة للمنمنمات العربية، وساعة اليوم التالي قد تكون من نصيب خوان ميرو.
أذهب دون خطة، أو غرض، وحدث بالأمس، نفس ما حدث مرات، فقد تهيأت لـ "كونشرتو الكمان لبيتهوفن"، لكن مقاطعات متتالية أفضت إلى "الفلاسفة الثلاثة" فأتت على الساعتين، معا؛ فقلت: عَشْواء تنتصر في أغلب الأوقات.
اقرأ أيضا: عن الذي وصف نفسه بـ «طبيب كل الفلاسفة» أحدثكم!
المقاطعة الأولى جاءت من صورة حملت تعليقا، أثار بحثا، لم يصل إلى نتائج، فتحول إلى "مهمة مؤجلة"، وعلى نفس النهج سارت المقاطعات التالية، وها هي بترتيبها:
صورة التُقطت للأميرة فوزية والأميرة التركية نسل شاه عام 1950 في القاهرة (قصر القبة) بعد انتهاء مؤتمر المرأة.
صورة تَاريخية التُقطت عَام 1959 لأطفال ومَعهُم مُعلمَتهُم وهُم يَعبرون فوق النهر باستخدام البكرات في طَريقهم إلى المدرسة في ضواحي "مودينا" بإيطاليا.
طبيب أسنان 1892.
السفاح الألماني جورج كارل غروسمان بائع لحوم النساء.
لـوحـة "إستـراحة أثنـاء الرحلـة إلـى مصـر" للفنان الإيطـالـي كـارافــاجـيــو، 1597.
خمس صور وخمس حكايات مفتوحة أمامي، ومهام جديدة مؤجلة بدورها، قلت: سأعود إليكم، فبيتهوفن ينتظرني، لكن الفلاسفة الثلاثة، أتت على ما تبقى من الساعتين.
الفلاسفة الثلاثة The Three Philosophers لوحة زيتية على قماش (أبعادها 123 سم × 144 سم)، وتُنسب إلى الفنان الإيطالي جورجوني، وقد رسمها في الفترة من 1505 إلى 1509، والاسم الحالي للعمل مستمد من نص لماركانتونيو ميشيل (1484- 1552)، الذي رأى اللوحة بعد بضع سنوات في إحدى المساكن الفخمة في البندقية، وهي الآن ضمن مقتنيات متحف تاريخ الفنون في العاصمة النمساوية، فيينا، وتعود ملكيتها إلى الأرشدوق ليوبولد فيلهلم (1614- 1662)، وهو عسكري، وكاهن كاثوليكي من النمسا.
وقد عرضت اللوحة للمرة الأولى في معرض أقامه الأرشدوق لمقتنياته الفنية في العاصمة البلجيكية، بروكسل، عام 1651، ومنذ ذلك الوقت أثارت اللوحة الكثير من النقاش والاختلاف والجدل غير المحسوم بالطبع، ففي اللوحة، كما تظهر للمشاهد، ثلاث شخصيات: شاب واحد (يجلس على الأرض بملابس متواضعة يدون المشاهدات من الطبيعة ولم ينهض بعد)، ورجل متوسط العمر (يقف منتصباً بزي عربي، أو إسلامي مهندم)، والآخر كبير بالسن (يقف وهو يرتدي قماشاً فخماً وكأنه يراجع ما كتبه الفيلسوف "المشرقي" أو ربما يبادر بمناولته ما كتبه).
السبب الرئيسي للجدل حول اللوحة أن جورجوني قام برسمها بناء على تكليف من الثري النبيل تاديو كونتاريني، وهو تاجر من مدينة البندقية كانت لديه اهتمامات في مسائل التنجيم والسحر والخيمياء. وأن سيرة الفنان نفسه بها الكثير من الغموض، فكما يطلعنا إبراهيم العريس في مقاله له بعنوان ("الفلاسفة الثلاثة" لجورجوني: الطبيعة والإنسان كيان واحد) ("الحياة" اللندنية- يوليو2013)، لم يصلنا من أعماله "سوى عدد قليل من اللوحات"، كما "لا نعرف الكثير عن حياته ومساره المهني".
وبحسب ما يخبرنا العريس فإن “جورجوني، واسمه الأصلي جورجي دا كاستلفرانكو، واحد من الفنانين القدامى الذين علينا دائماً- وحتى إشعار آخر- أن نكتفي بأن نعرفهم، فقط من خلال أعمالهم التي تركوها لنا، على قلتها، ذلك أننا، في الحقيقة لا نعرف الكثير عن حياته، باستثناء أنه لم يعش سوى 33 عاماً، إذ قضى شاباً بوباء ضرب البندقية في زمنه. والبندقية هي المدينة التي عاش فيها ورسم. وإذ يقول البعض انه تحدّر من أسرة فقيرة وولد في بلدة غير بعيدة عن البندقية (في العام 1477 على الأرجح)، نرى آخرين يفضلون القول انه ينتمي، عائلياً، الى أسرة بارباريللي الثرية".
اقرأ أيضا: كيف توظّف نظريات الفلاسفة في السياسة المعاصرة؟ (2من2)
على مر الأيام اقترحت تفسيرات مختلفة، ومتناقضة، للوحة الفلاسفة الثلاثة، وخاصة للشخصيات الثلاث: الرجل العجوز، والشخصية العربية (الإسلامية) والشاب الإيطالي، فقد يمثل الرجل العجوز فيلسوفًا يونانيًا، مثل أفلاطون أو أرسطو، الذين نسخت كتاباتهم ونقلت أو تطورت عبر الفلاسفة العرب إلى عصر النهضة الإيطالية؛ فالفيلسوف العربي (الإسلامي) ربما يمثل الموسوعي ابن سينا أو ابن رشد، أما الشاب الإيطالي فيمثل التطلع في بداية عصر النهضة لآفاق جديدة، وقد تكون اللوحة تجسيد لعملية نقل المعرفة، نقل الكلاسيكيات من فلسفة الإغريق القديمة عبر العرب أو الترجمات العربية، التي بثت روحها مرة أخرى خلال عصر النهضة الإيطالية.
وبالإمكان اعتبار الشاب الجالس على الأرض على أنه علم النهضة الجديد بجذور تمتد للماضي، حيث ينظر إلى ظلام للكهف، فيرمز ذلك إلى الأسرار التي لم يتم اكتشافها بعد، وقد يرمز الكهف أيضًا إلى المفهوم الفلسفي لكهف أفلاطون.
وهناك فرضيات جديدة حول الشخوص وهوياتهم الرمزية، فالمؤرخ الفني البريطاني جورج تشارلز ويليامسون (1858-1942) يذهب إلى ملحمة "الإنيادة" التي كتبها الشاعر الروماني فرجيل، نهاية القرن الأول قبل الميلاد، ليفترض أن الشخصيات الثلاث في اللوحة تمثل ثلاث شخصيات في "الإنيادة"، وهم "إيڤاندر وابنه پالاس وهما يشيران لآينياس (الشخصية الأساسية في الملحمة)، وإلى موقع روما المستقبلي".
وهناك فرضية تستند إلى شخصيات في الأسفار التوراتية، وتقترح أن الرجال الثلاثة هم: الملك سليمان، وحيرام الأول، ملك صور، وحيرام أبيف. وهناك تفسيرات تحصر الشخصيات الثلاث في شخصيات ترمز لمدارس ضمن الفلسفة اليونانية، التي كان من ضمن فلاسفتها شخصيات من أصول سورية، أو يهودية، تتزي بملابس مشابهة لما اعتاد عليه العرب في تلك الحقب.
وهناك تفسيرات غير شخصية، حيث ينظر إلى الشخصيات الثلاث على أنها تجسد تمثيلات نموذجية لثلاث مراحل من الإنسانية (الشباب، النضج أو الرشد، والشيخوخة)، أو ثلاثة عصور من الحضارة الأوروبية (العصور القديمة، العصر الأوسط، النهضة)، أو الديانات الإبراهيمية الثلاث، أو مزيج من هذه المفاهيم العامة. وهناك اقترح، ما زال شائعا بصورة ما، حيث تعتبر اللوحة تجسيدا للملوك الثلاثة المجوس الذين ذهبوا إلى الناصرة وانتظروا ميلاد السيد المسيح، وفي المقابل هناك مقترح مضاد تماما، حيث الشخصيات الثلاث تنتظر المسيح الدجال، استناداً إلى علم التنجيم، فعلى الورقة التي يحملها الفيلسوف المسن، يمكن رؤية كلمة "الكسوف" ومخطط فلكي. وكان يُعتقد وفق تلك التصورات أن الاقتران أو التزامن العظيم بين 1503 والكسوف في نفس العام هما علامات تعلن عن مجيئه.
أما التفسير الأكثر شعبية والأكثر قبولا لـ "الفلاسفة الثلاثة" فهو أن هذه الشخصيات الثلاثة، واللوحة بشكل عام تعد قصة مجازية لتاريخ الفهم والتنوير، حيث يمثل الرجل الأكبر سنًا، والذي يُعتبر عمومًا يونانيًا، أرسطو أو فيثاغورس، وكلاهما من آباء الفلسفة الإغريقية، ويمثل الرجل في منتصف العمر العصر الذهبي للفلسفة العربية (الإسلامية)، أما الأصغر فيشير إلى عصر النهضة، والدخول إلى نور العلم والفهم. ولذلك فالمدينة الموجودة في الخلفية تدل على العالم الجديد الساطع القادم من المعرفة والحقيقة.
العريس، إذ يعرج على بعض هذه التصورات المختلفة، والمتناقضة، أحيانا،، يؤكد أنه في "أعمال الرسام النهضوي جورجوني نجد الطبيعة تشكل الحيز الأبرز والأهم في اللوحة، وتبدو جزءاً أساسياً من الموضوع لا مجرد مكان له، بل تبدو هي التي تملي على شخوص اللوحات مواقفهم ونفسياتهم. ومن هنا، فإنه إذا كان يقال عن عصر النهضة- الإيطالية بخاصة- إنه العصر الذي مزج الفن بالطبيعة، وبالتالي: الإنسان بالطبيعة، في بوتقة واحدة، فإن هذا ينطبق على جورجوني أكثر ما ينطبق على أي من زملائه ومعاصريه. بل يمكن القول إن جورجوني إذ أعطى المكانة الأولى في أسلوبيته للون على حساب الخطوط المشكّلة، وجعل الضوء وحده- تقريباً- يضفي على الشخوص والأشياء (أشياء الطبيعة بين أمور أخرى) أشكالها وحضورها، إنما كان الأول بين الفنانين الذي عبّر في ذلك عن الوحدة بين مختلف هذه العناصر".
والعريس، أيضا، إذ يبرز أن جورجوني في "الفلاسفة الثلاثة" لم يترك ما يدل إلى حقيقة الموضوع الذي أراد التعبير عنه، يبين "أن ما تقوله اللوحة نفسها يبدو فصيحاً من ناحية الموسيقى الداخلية التي تحملها، من ناحية نظرات شخوصها، ثم وفي شكل أساسي من ناحية المشهد الطبيعي الذي يأتي استخدام الألوان الحارة لإعطائه دفئاً إنسانياً لا شك فيه. وهذه اللوحة، مثل معظم أعمال جورجوني التي نعرفها، تمثل أطروحة ما، موضوعاً معيناً، فالرسام إذ يضع شخصياته (أو بالأحرى كائناته، طالما أن هذه الشخصيات تبدو كأنها أُبعدت عن أي مادية) وسط المشهد الطبيعي، يبدو كأنه يقول لنا إن هذا الامتزاج بالطبيعة إنما هو سبيل الخلاص الوحيد.
وواضح هنا أن جورجوني لا يسعى إلى محاكاة طبيعة معينة، بل يعيد اختراع المشهد الطبيعي، في تكثيف للعناصر، ثم يدعونا إلى تأمل هذا المشهد بنظرة جديدة، وهذه الدعوة هي التي حدت بمؤرخي فنه إلى القول إن جورجوني لم يكن رساماً وحسب، بل كان شاعراً وفيلسوفاً أيضاً".
مقاطعات النظر جارت على حصة السمع، لكن الفلاسفة الثلاثة صالحتهم، فقد رأيت فيها ما اكتشفه العريس فيها، إذ يذكر "أن جورجوني بات ينظر إلى اللوحة بصفتها قصيدة، أو لحظة شديدة الغموض مملوءة بكل أنواع اللايقين. ترى، ألا يمكننا أن نقول هنا إن كل الشخصيات التي تملأ لوحات جورجوني، ومنها هذه اللوحة، تبدو وكأنها تعيش انتظاراً غامضاً لأمر قد يحدث ويكون حاسما".