قضايا وآراء

في وداع العام 2021

1300x600
تفصلنا عن نهاية العام 2021 أيام قليلة، وندخل مسار سنة جديدة، تتمنى البشرية قاطبة أن تكون أحسن من سابقاتها، سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا، ويتطلع الناس في كل دول المعمورة إلى أن يستعيد العقل رشده، وتوازنه، وميله نحو الأمان والاستقرار والسكينة الجماعية، وأن يعُم الخير العام، وينتصر المشترك الإنساني، وتتبدد مظاهر الظلم وغياب العدالة الاجتماعية.

لعلها نفس الكلمات تتكرر نهاية كل سنة، والتطلعات ذاتها تعبر عنها ألسنة الناس وتجهر بالسعي إلى تحقيقها، وهي كذلك الخطابات نفسها يوجهها قادة العالم إلى شعوبهم وباقي البشرية من حولهم، بيد أنه إلى جوار هذه اللغة المعادة والمتكررة كل سنة، ثمة واقع يمارس عناده باستمرار، ويعمق معاناة فئات واسعة من البشرية، ويطرح أسئلة المعنى ودلالات الجدوى من سياسات وممارسات لم يتعب صناعُها من جعل الحياة البشرية أكثر اضطرابا، وأعمق اختلالا، وأوسع عرضة لعدم الإنصاف وضعف العدالة.

فبإطلالة على تقارير المنظمات الدولية المختلفة والمتنوعة، يسهُل إدراك حجم الفجوات التي تميز حياة الناس وتطبع مسارات البشرية. نلمس ذلك في اختلالات توزيع الثروة في العالم، حيث تستحوذ أقلية من الدول على مجمل مقدرات العالم وخيراته، وحتى داخل المجتمعات الوطنية. نعاين الفجوة نفسها بين مكونات الشعب الواحد، كما نلمس الآثار العميقة المترتبة عن ضعف عدالة التوزيع وغيابها في الكثير من الأحيان.
يسهُل إدراك حجم الفجوات التي تميز حياة الناس وتطبع مسارات البشرية. نلمس ذلك في اختلالات توزيع الثروة في العالم، حيث تستحوذ أقلية من الدول على مجمل مقدرات العالم وخيراته، وحتى داخل المجتمعات الوطنية

لقد جهد الفكر البشري منذ قرون من أجل ترشيد العنف واستعمال القوة المادية والرمزية، وترسيخ قواعد السلم والأمن، وتوطين قيم العيش المشترك، فأنشأ لهذا الغرض مؤسسات ومنظمات عديدة، وأنفق الكثير من أجل تيسير شروط التوافق بالحوار حول بناء عالم جديد؛ تتراجع فيه الأنانية، ويعمُّ فيه الوفاء لروح المشترك الإنساني، وتتصالح البشرية من خلاله مع العقل وموازينه. غير أن القوة العميقة النابعة بالسليقة من الطبيعة البشرية، بتعبير "توماس هوبز" (1588- 1679)، ما زالت مستحكمة في الغرائز والميولات، وتدفع عكسيا في اتجاه إضعاف العقل والحلول دون الانتصار لأحكامه. لذلك، تبدو صورة العالم ونحن على مشارف توديع العام 2021 مقلقة وغير مشجعة على التفاؤل من السنة القادمة (2022).

ثمة مصفوفة من التحديات تواجه العالم وتدعو قادته إلى تجديد التفكير فيها، والتكاتف من أجل تجاوزها إيجابيا، إن توفرت إرادة ذلك. فمن جهة، ستستمر آفة الجائحة ضاغطة بكل سلبياتها على الدول والمجتمعات، ويُتوقع أن تتعمق آثارها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية أكثر، على الرغم من الإنجازات الكبيرة الحاصلة في زمن قياسي للتغلب عليها.

فالواضح أن انتشار الوباء في تزايد على الرغم من توفر اللقاحات وبلوغ الدول الغربية إلى نسب عالية من المستفيدين منها، كما أن فهم طبيعة الجائحة ووعي خطورتها، والاجتهاد في ابتكار السياسات الاحترازية للوقاية منها والحدّ من خطورة انتشارها، واقع ملموس وواضح، وإن اختلفت نسبه من بلد إلى آخر بحسب تباين مدى قدرة الدول على الوصول إلى اقتنائه والاستفادة منه. فمما هو واضح أن ثمة اختلالا في عدالة توزيع اللقاحات بين الدول الأوروبية والغربية عموما، والبلدان التي استمرت عاجزة عن الاستفادة من إنجازات العقل البشري في صنع اللقاحات وجعلها متاحة لمقاومة الوباء.

تُضاف إلى الجائحة تحديات متجددة وشبه مزمنة وأخرى في طور التشكّل والاستقرار، وكلها من طبيعة تنافرية وليس تعاونية. فمن جهة، هناك ميل واضح نحو انتقال الثقل الحضاري إلى آسيا والمحيط الهادئ، يقابله مسار نحو انتقال التنافس والصراع إلى هذه المنطقة، تحديدا بين أمريكا والصين ومن يدور في فلكهما. بل تدُلّ كل المؤشرات على أن صراع العقود القادمة سيتركز في هذه الجهة من العالم، وأن نهاية وشيكة لهيمنة المحيط الأطلسي ستحدث كما حصل تدريجيا للبحر الأبيض المتوسط مع نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر.

والواضح في هذا الصراع أن موازين القوى ستتغير، حيث تتحول أوروبا إلى "قارة عجوز"، كما نعتها القادة الأمريكيون منذ سنوات. ومع ذلك، سيستمر التضامن الغربي- الغربي مطلوبا وقائما للدفاع عن القيم المشتركة بين دوله ومجتمعاته، وإن تبددت أرصدة قوة أوروبا في صنع سياسات العالم.
موازين القوى ستتغير، حيث تتحول أوروبا إلى "قارة عجوز"، كما نعتها القادة الأمريكيون منذ سنوات. ومع ذلك، سيستمر التضامن الغربي- الغربي مطلوبا وقائما للدفاع عن القيم المشتركة بين دوله ومجتمعاته، وإن تبددت أرصدة قوة أوروبا في صنع سياسات العالم

بيد أننا حين ننتقل من العام إلى الخاص، ونطل على بلادنا العربية، نجد أن أوضاعنا لا تختلف عن أوضاع العالم من حولنا، بل لا نتردد في القول إنها أكثر دقة وصعوبة، والمؤشرات كثيرة ومتعددة للتدليل على صحة هذا النظر. لنُمعن في حال العمل العربي المشترك، ومآل بيت العرب "الجامعة العربية"، التي تُعد أقدم تنظيم إقليمي على الإطلاق، ولنتساءل: لماذا كان نصيبها التعثر وتواضع الإنجاز، بينما فعل غيرها من التنظيمات الكثير والكثير؟ بل حتى الاتحادات الإقليمية الفرعية، كما هو حال مجلس التعاون الخليجي، توقفت لأسباب لا يقبلها العقل والمنطق، وهي الآن تسعى إلى النهوض من كبوتها..

أما قضايا الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، فما زال منسوب العجز فيها مستمراً وضاغطاً، ومكبلاً لإمكانيات الانتقال نحو الأفضل.. ناهيك عن مشكلة الانكشاف إزاء الخارج والتبعية المستدامة له ولمؤسساته.

نتمنى للعالم في عامه الجديد (2022) أن يعمّ الرخاء والسلام أرجاءه، وأن تنتصر في ربوعه قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وأن يستعيد العقل البشري رُشده ليقود الناس نحو السكينة والأمان وتقاسم الخير والمحبة والعيش المشترك.