أخبار ثقافية

اندماج الرياضات وانشطارها

الظاهرة الأغرب في تطوُّر الرياضات فهي الاندماج- جيتي

من يصدّق أنّ كرة القدم العالمية Soccer والأمريكية American Football والرغبي Rugby وغيرها من أنواع كرة القدم الحَمليّة – أي تلك التي ينطلق فيها اللاعبون وهم يحملون الكُرة بأيديهم - والرَّكلِيّة أي المعتمِدة على القدم أساسًا، هي جميعًا فروعٌ نبتَت من جذعٍ واحدٍ ظهرَ في المدارس البريطانية في بدايات القرن التاسع عشر كتهذيبٍ لرياضةٍ جماعيّةٍ دُونَ قواعِدَ واضحةٍ كانت تُمارَس في أوربّا لقُرون؟

في تلك الرياضة القديمة التي دأَب مؤرّخو كرة القدم على تسميتها (كرة قدم الغوغاء Mob Football) كان فريقان بلا حدٍّ أقصى لعدد لاعبِيهما يتنافَسان على جَرّ مثانة خنزيرٍ منفوخةٍ، كُلُّ فريقٍ يحاولُ أن يصلَ بها إلى علامةٍ محددةٍ عند نهاية المدينةِ، أو أن يُلقِي بها إلى شُرفة كنيسة الفريق المُنافِس!

فإذا ما تناولنا كُرة المضرب، فسنجدُ أنّ التنِس بتنويعاته وتنِس الريشة لم يخرجا من رحِمٍ مشترَكةٍ في الحقيقة، لكنّنا لا نَعدَم فكرةً واحدةً وراء تنويعات التنِس المختلفة، هي ببساطةٍ فكرة تقاذُف كُرةٍ بين مِضربَين. ربما تُضاف ستّ عشرةَ ريشةَ بَطٍّ إلى الكُرة لتحوِّلَها إلى مكُّوكٍ فائق السُّرعة Shuttlecock في تنِس الريشة، لتكون دعامةً لصِناعةٍ غريبةٍ جديرةٍ بالتأمُّل يُطلَق عليها (صناعة طُيور تنِس الريشة Badminton Birdies).

وربما تُقام اللعبة على ميدانٍ أخضر أو داخل قاعةٍ مُغطّاةٍ، وربما تُختصَر مساحتُها إلى طاولةٍ وتتقلّص الكرة المطّاطيّة إلى أخرى أصغر من مادّةٍ لَدنةٍ في تنس الطاولة، لكنّ الفكرة الأولى تظلّ واحدة.

أمّا في الرياضات القِتاليّة، فإنّ التنويعات ظلَّت تتوالَد، بعضُها من بعض، ربّما منذ بداية التاريخ المكتوب. خرجت المصارعة الحُرّة freestyle wrestling من رحِم مصارعةٍ ازدهرَت في بريطانيا باسم Catch as Catch can، وخرجت رياضة الچيوچِتسو البرازيلية من رحِم الچودو، وغير هذه كثير.

هذا الانشطار المستمرّ للرياضات مفهومٌ بَداهةً ضمن خطة التمدد الحضاري، فالفكرة تظهر أوّلاً بطريقةٍ ارتجاليّةٍ محضة، كأن يفكّر صبيّان – مدفوعَين بالملَل – في ارتجال مِضربَين من أقرب مادّةٍ مُتاحةٍ لهما، ومقذوفٍ قد يكونُ كُرّيًّا أو غير ذلك، ويقتُلان الوقت بتقاذُف تلك الكُرة المرتجَلة، ثم يضيفان قاعدةً أثناء اللعِب تبدو وكأنها تُضيف صعوبةً ومتعةً وتزيد مقدار التحدّي، كأن يُقيما فاصلاً في منتصف المسافة بينهما، ويكون مسموحًا للكرة بالارتطام بأرض الخصم مرةً واحدةً، فإن ارتطمت أكثر من مرةٍ فقد خسر الخصم. ثم يتطور الأمر إلى تقعيدٍ أشدّ صرامةً وتنتشر اللعبة. وقُل مثلّ ذلك في رياضات القِتال. وفي كل الأحوال تصطدم الرياضة الوافدة بشبيهةٍ لها محلّيّةٍ، وإن كانتا مختلفتَين في بعض القواعد، أو ربما كانت إحداهما أكثر انضباطًا من الأخرى. يتفاعل الوافد مع المحلّيّ، وربما يخرج من تفاعلهما نِتاجٌ جديد.

أمّا الظاهرة الأغرب في تطوُّر الرياضات فهي الاندماج. في اليونان القديمة ظهرَ الخماسيّ مكوَّنًا من العَدْو ورمي الرُّمح وقذف القُرص والوثب العالي والمُصارَعة. ويقول (نورمان جاردِنر) في كتابه (الرياضة في العالَم القديم Athletics in The Ancient World) ما مضمونُه إنّ أبطال الخُماسيّ القديم كان يُنظَر إليهم باعتبارِهم أقلّ شأنًا من أقرانهم المتخصصين في أيٍّ من الرياضات الخمس التي يشتمل عليها الخماسيّ، إلا أنهم كانوا الأفضل بالتأكيد من حيث تطوُّرهم الجسديّ العامّ وتوازُن قُواهم وبنية أجسادهم. وكان الباعث على دمج هذه الرياضات الخمس في واحدةٍ هو ملاءمتُها جميعًا للتدريب العسكريّ للجُنود. ولعلّ ذلك يبيّن لنا أنّ ظاهرة تكوُّن رياضة الخُماسيّ تكاد تكون رُجوعًا بممارسة الرياضة إلى الوراء، فبعد أن اتّخذ النشاطُ البدنيّ صُورًا مختلفةً، اندمجَت هذه الصُّوَر في إطارٍ شبه عسكريٍّ، وهو أمرٌ له دلالتُه إذا تذكَّرنا أنّ مواسم إقامة الألعاب الأولِمپيّة في اليونان القديمةِ كانت مواسمَ للسَّلام العامّ التي تَحرُمُ فيها الحَرب، تمامًا كموسِم الحَجّ عند العرب قبل الإسلام. هكذا يبدو أنّ مرجعيّةَ الحَرب تسلّلَت عن طريق رياضة الخُماسيّ إلى عُقر دارِ الرياضة التي كانت شكلاً من أشكال الإعلاء للنشاط البدنيّ فوقَ دواعي الحرب عند اليونان! 

ومازال نفس المبرِّر قائمًا في تكوين رياضة الخماسي الحديث Modern Pentathlon، باعتبار السباحة الحرّة والرماية بالليزر والفروسية والمبارزة واختراق الضاحية تجسّد في مجموعها مهاراتٍ مهمةً لرجال سلاح الفُرسان خلف خطوط العدُوّ. 

كذلك الأمر في الرياضات القتاليّة، فبعد استقرار الأنواع المختلفة بخصائصها المميزة، حيث المصارعات تركّز على إلقاء الخصم إلى الأرض والملاكمة تركز على قدرة قبضة اليد على الإصابة والتايكوندو على قوة ضربات القدمين والساقَين في المقام الأول، نشأت فنون القتال الهجينة والمختلطة. ظهرَت في البرازيل رياضة (ﭬالي تودو Vale Tudo) – واسمُها البرتغاليّ يعني: كلُّ شيءٍ مسموحٌ به – واكتسبَت شعبيّةً في عشرينات القرن الماضي، وقد قامت أساسًا على دمج رياضة الچودو الآسيوية برياضة الكاپويرا Capoeira البرازيلية القديمة. والملاحَظ أنّ مباريات ﭬالي تودو تبدو أعنفَ من كثيرٍ من الرياضات القتالية الأولمپية المرموقة.

ويُنظَر إلى المباراة التي جمعَت سنة 1976 في اليابان  بين أسطورتَي الملاكمة والمصارعة محمد علي كلاي وأنطونيو إينوكو على الترتيب، باعتبارِها السابقة الأشهر لتقعيد الرياضات القتالية الهجينة والمختلطة.

 



وإن كان المفهوم بالطبع أقدمَ من ذلك بكثيرٍ، حيث نجدُه في رياضة الپانكراتيون اليونانية القديمة παγκράτιον حيث يعني اسمُها (كُلّ القوّة) لأنها تستعير آليّات الملاكمة والمصارعة وغيرهما.

 


إذا أنعمنا النظرَ إلى هذا الاندماج بين الرياضات، فسنجدُ أنه يشبه نُزوعًا إلى العودة إلى نقطةٍ في مجرى التاريخ الإنسانيّ، سابقةٍ على ظهور الأنساق الرياضيّة المتخصصة والأنظمة المغلَقة ذات القواعد الصارمة. وفي رأيي أنها تكاد تمثّل نزوعًا ضدّ التيار العامّ للحضارة الذي يَجلُبُ المزيد من التخصُّص. وهو في ذات الوقت نزوعٌ قريبٌ في اتجاهِه إلى الماضي من النزوع الدِّينيّ، حيث تنفرِد الممارسة الدينيّة بين سائر صُور النشاط البشريّ بكونِها متّجِهةً أساسًا إلى لحظةٍ مرجعيّةٍ في الماضي، سواءٌ كنّا نتحدثُ عن الإسلام حيث تتمثل تلك اللحظة المرجعية في لحظة نزول الوحي على سيدنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، أو عن إحدى الفِرَق الدينية الحديثة في اليابان، ولتَكُن فرقة (تِنريكيو) – أي الحكمة السماوية – التي تعودُ بدورها إلى لحظةٍ مرجعيةٍ في الماضي هي لحظة تلبُّس الرُّوح الخالِق بمؤسِّسة تلك الديانة (ناكاياما ميكي/ أوياساما 1798 – 1887)!


ومن الجدير بالذِّكر أنّ تجمُّع ألعاب العَدْو والرَّمي والقفز المعروف بألعاب القُوَى Track & Field يكاد في احتفاظه بانضواء أحداثه المختلفة تحت لواءٍ واحدٍ يُشبه دِينًا رياضيًّا معتزًّا بأصولِه الإغريقية. فالمُلاحَظ أنّ طبيعة أجساد أبطال العَدْو المائلين إلى النُّحول، تختلف جذريًّا عن طبيعة أجساد أبطال دفع الجُلّة أو قذف القُرص المائلِين أحيانًا إلى البدانة. صحيحٌ أنّ هناك مسابقاتٍ تجمعُ الأحداث المختلفةَ معًا، إلا أنّ الأصلَ في الممارسة الرياضيّة الحديثة أن يتخصص الرياضيُّ في نوعٍ واحدٍ من ألعاب القُوَى.


الخلاصةُ أنّ النشاط الرياضيّ يبدو في نزوعَيه إلى الانشطار والاندماج أقربَ إلى خطٍّ مستقيمٍ يتمدد في كلا الاتجاهَين، اتجاهٌ إلى المستقبَل بمزيدٍ من الانشطارات والتخصُّص المتوافِق مع اتجاه الحضارة، واتجاهٌ إلى الماضي باندماج عددٍ من الرياضات في رياضةٍ واحدةٍ، أو بإلغاء القواعد المتخصصة لصالح رياضةٍ مفتوحةٍ قليلة أو عديمة القواعِد، وهو اتجاهٌ يكاد يخلُقُ داخل عالَم الرياضة دياناتٍ رياضيّةً تَنشُدُ فِردوسَها فيما وراءَ سِجن الحضارة، ويُيَمِّمُ أبطالُها وجوهَهم شطرَ لحظاتٍ مرجعيّةٍ في الماضي.