كيف يمكن فهم ما يجري حاليا في العراق من عنف تجسد بالتخريب والاقتتال بالرصاص الحي أو بالطائرات المسيرة المفخخة، في أعقاب انتخابات تم تسويقها باعتبارها من أكثر الانتخابات التي عرفها العراق نزاهة وشفافية، منذ غزوه عام 2003، ورُحب بها، عالميا، كأعلى مراحل «العملية السياسية الديمقراطية» التي أسستها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بمساهمة أحزاب وشخصيات عراقية، وباركتها عشرات الدول والمنظمات الحقوقية من أرجاء العالم؟ ماذا عن الأحزاب التي حشّدت للانتخابات كما لو كانت الحل السحري لكل المشاكل ثم عادت ورفضتها بكليتها، باحتجاجات وهجوم على القوات الأمنية، حالما دلت النتائج على عدم فوزها بها؟ هل هي العنجهية الناجمة عن الاستقواء بالخارج؟ أم أنه السياق الطبيعي لنمو بذرة هجينة، زُرعت في غير تربتها، بمساعدة هرمونات اصطناعية؟ وها هو الحصاد: محصول لا يتعرف عليه، لفرط تشوهه، حتى من زرعه، ولا علاقة للحقل الذي نُثرت فيه بذور الغزاة بالنمو العضوي المتعارف عليه للطبيعة.
لينأى بنفسه عن الفساد ومن يمثله، اختار أغلب العراقيين مقاطعة الانتخابات، باستثناء نسبة من المحتجين في انتفاضة تشرين الأول/اكتوبر، تاركين الساحة للمتقاتلين على المحاصصة الطائفية، والعرقية، والفساد المالي والإداري، بالإمكان تقسيمهم إلى نوعين. يضم النوع الأول أحزابا صار لديها باع طويل، يقارب العشرين عاما، في تمثيل أما السياسة الأمريكية أو الإيرانية بالنيابة، بالإضافة إلى تجذير مصالحها وطموحاتها الخاصة. من بين هذه الأحزاب: حزب الدعوة والحزب الإسلامي والحكمة والاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني. ويضم النوع الثاني الميليشيات المسلحة التي تمت شرعنتها كأحزاب، بعد أن تكاثرت بسرعة الفايروس، مع تزايد الولاء لهذه الجهة أو تلك ومع تنوع مصادر سلاحها، فأصبحت أكثر قوة وسيطرة على الشارع من الحكومة. وحازت على دعم الأحزاب (الأم) التي احتاجتها للقضاء على أي مقاومة للاحتلال، فضلا عن القضاء على الجيل الجديد من أبناء انتفاضة تشرين المطالبين بوطن.
من بين أبرز أحزاب الميليشيات: سائرون (وجه سرايا السلام وما يسمى بالتيار الصدري) و«الحشد الشعبي» المكون من 45 فصيلا، أبرزها حزب الله/ العراق، وعصائب أهل الحق. وكلها، بلا استثناء، مسؤولة عن جرائم وانتهاكات مذهبية وحملات تطهير، موثقة بالأرقام والتواريخ، في عديد التقارير الحقوقية المحلية والدولية، بضمنها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
وبينما يتظاهر المحتجون على خسارتهم الانتخابات ويهددون باقتحام «المنطقة الخضراء» ومع تصاعد العنف بينهم والقوات الأمنية، قام مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الفائز بأقل مما توقعه من المقاعد (73 بدلا من 120 من مجموع 329) وإن أكثر من الكتل الأخرى، باتخاذ خطوة تتماشى مع سيرته المضحكة المبكية، المعتادة، في معالجة الأزمات. حيث «قَطعَ سماحته زيارته للعاصمة بغداد، استنكاراً لِما يحدث من عُنف غير مُبَـرَّر، ومن إضعاف الدولة المُتَعَمَّـد» كما جاء في بيان لمكتبه.
لعل أفضل مقاربة لفهم الصراع الدائر، حاليا، بسِمَته التراجو كوميدية، بما في ذلك اللجوء إلى التصفيات الجسدية والابتزاز وتأجير الحماية، بين عوائل تنتمي الى المذهب ذاته، وتتبع أو تَدّعي إتباع المرجعية ذاتها، هي الموجودة في فيلم «العراب».
الفيلم الذي يُبين صراع عوائل المافيا واقتتالها الشرس وترويعها الآخرين، للاستحواذ على المال، مهما كان مصدره، والسلطة مهما كانت السبل، واستكشاف طبيعة القوة، والاختلاف بين ما يمكن تسميته بالسلطة المشروعة وغير المشروعة، بين سلطة الدولة والمؤسسات الشرعية وسلطة المافيا. ولا يخلو صراع عوائل المافيا، كما في أحزاب عراق اليوم، التي هي في حقيقتها عوائل تتصرف كأحزاب بقيم عشائرية، من مفهوم الشرف المتوارث ضمن أفراد عائلة واحدة، بموازاة التحالفات السرية والتكتلات مع بقية العوائل، وما قد تجلبه من صفقات تجارية وسياسية لهذه العائلة أو تلك.
ولنأخذ كمثال على المناورات واللقاءات الدائرة، الآن، في بغداد بين أحزاب النظام وميليشياته لتقاسم المراكز السياسية وما تدره من أموال، الاجتماع المشهور الذي تم عام 1948، بين رؤساء عوائل المافيا، في نيويورك، بعد مقتل ابن عراب المافيا فيتو كورليوني. عُقد الاجتماع للتوسط وإحلال السلام بين عائلتي كورليوني وتاتاغليا المتحاربتين. ترأس الاجتماع وسيط، سرعان ما أدرك فيتو أن العوائل الأخرى تحالفت معه سراً، لإجبار عائلة كورليوني على مشاركتهم الحماية السياسية، التي حصلت عليها العائلة بالاتفاق مع أعضاء في الكونغرس ورجال الأمن والشرطة.
وكان الخلاف الرئيسي بين العوائل حول تجارة المخدرات المزدهرة التي عارضها فيتو. وافق فيتو على مضض على مشاركة نفوذه السياسي لحماية تجارة المخدرات، لإنهاء حرب العائلات الخمس. وإذا كان كورليوني قد فشل في إضفاء الشرعية على المافيا فان ابنه الأصغر نجح، بعد استيراثه، في تحقيق ذلك من خلال تصفية معارضيه بطريقة وحشية. مما يأخذنا إلى نقطة تشابه مع خصومات ونزاع أحزاب العوائل التي يقودها، الآن، أبناء جيل المؤسسين الأوائل كعائلة الصدر والحكيم والخوئي وبدرجة أقل البارزاني وطالباني، بحماية سياسية وعسكرية من أمريكا وإيران.
وكأن اقتتال الانتخابات ليس كافيا، أضيفت إلى محنة الشعب العراقي جعجعة محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، التي جعلته، كما أُريد للانتخابات، محط أنظار العالم، بردود أفعال استنكارية تربع على رأسها البلدان اللذان يمارسان الإرهاب على أرض العراق. حيث سارعت إيران إلى تحميل «جهات أجنبية» المسؤولية، في الوقت ذاته، الذي ادانتها الولايات المتحدة كفعل إرهابي يستهدف الدولة العراقية، مما يثير تساؤلا عن أي دولة يتحدثون؟ ولم محاولة الاغتيال وقد انتهى الكاظمي من تنفيذ مهمته، ومن المفترض أن يكون قد أعد حقيبته ليلتحق بعائلته المقيمة خارج العراق، كما فعل عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء الذي سبقه؟
والحل؟ أقتبس هنا جملة للمؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة، مؤلف «أطلس فلسطين» التوثيقي لمدن وقرى فلسطينيّة، هدمها المحتل الصهيوني، في إجابة عن سؤال حول المستقبل، وتكاد تنطبق مقولته على العراق بحذافيرها، حيث يقول: «بدأت العمليّة تتم للقضاء علينا باستخدام أناس من الشعب الفلسطيني، يدّعون أنهم يمثِّلوننا وهذه هي الكارثة الكبرى.. ليس لنا غير الشباب الذين يستشهدون كل يوم، ويُقتلون بدم بارد… إن الوقت قد حان لتنظيف البيت الفلسطيني بمكنسة ديمقراطية؛ لإزالة كل الفساد، فشعبنا يستحق الأفضل بكثير مما هو عليه الآن».
(القدس العربي)