مؤتمر العدالة والتنمية ربما سيكون أشهر مؤتمر في تاريخه، وربما سيكون أشهر حتى من المؤتمر الاستثنائي (1996) الذي أعلن عودة حزب عبد الكريم الخطيب للعملية السياسية بعد أكثر من ثلاثين سنة من الغياب عن مسرحها، وإدماج الإسلاميين في النسق السياسي.
تفسير ذلك، أن الجميع كان يعلق الأمل عليه. فالأمانة العامة التي قدمت استقالتها السياسية عقب النكسة الانتخابية التي مني بها الحزب، كانت تنتظر هذا المؤتمر، وتعتقد بأنها ستكون محطة مفصلية لإثبات صوابية اختياراتها، وأن أسلوب حكومة العثماني في التدبير من غير سياسة، سيمكنها من المحافظة على الرتبة الأولى وتصدر المشهد السياسي من جديد، وبالتالي إسكات المخالفين، ولذلك، لم تتردد قيادات الحزب عشية الانتخابات بالتبشير بأنهم سيحصلون على المرتبة الأولى.
معارضو تدبير القيادة، كان أملهم أكبر في هذه المحطة، فكانوا يعتقدون أنها آخر فرصة لإنقاذ الحزب «المختطف» حسب تعبيرهم، من قبل القيادة الحالية التي قدمت استقالتها، ولا تزال تسيطر على الحزب وتتحكم في أجهزته، وتفرض قيودا عليه تؤثر في مستقبله.
المنزعجون من فساد العلاقات بين قيادات الحزب، وبين أعضائه، اعتبروا أن محطة المؤتمر ستحدد وجهتهم، وما إذا كان سينجح المؤتمر في تأمين وحدة الحزب وتأمينه، وبالتالي تبرير استمرارهم في صفوفه، أم أن الخلافات ستتفجر، وتؤذن برحيل جماعي لهم عن هذا المشروع.
مؤتمر بهذا الحجم والاستثنائية، يبدو أكثر أهمية من سائر المؤتمرات التي عقدها الحزب، لسبب بسيط، وهو أنه سيحكم على مساره بالتصحيح والمصالحة، أو سيدق إسفينا عميقا في نعشه، معلنا نهايته أو انشقاقه.
أجندة المؤتمر الاستثنائي الذي سينعقد آخر هذا الأسبوع ليست فيه إلا نقطتان تقنيتان (انتخاب القيادة الجديدة، ومدة ولايتها) من غير نقاش سياسي يذكر. لكن ثقل السياسي يكمن في تفاصيل هذا التقني التنظيمي.
الأمانة العامة المستقيلة، قدمت مقترحا للتصديق عليه في المجلس الوطني الذي انعقد الأسبوع الماضي، بتقييد ولاية القيادة الجديدة بسنة واحدة، تخصص فقط للإعداد للمؤتمر العادي. حجتها في ذلك ضرورة الملاءمة مع مقتضيات القانون التنظيمي للأحزاب (انتظام مؤتمرات الحزب) وتأمين الحصول على الدعم العمومي من الدولة.
المختلفون جزئيا مع اقتراح الأمانة العامة، اقترحوا مدة أطول نسبيا، سنة ونصف، أو سنتين، فيما المعارضون لها كليا، اقترحوا إزالة التقييد مطلقا.
حجة المعارضين، أن الأمانة العامة مستقيلة، ولا يحق لها أن تقدم مقترحا للمجلس الوطني، وأن تقييد ولاية القيادة الجديدة، يعتبر بمثابة تكبيل القيادة المستقيلة التي كانت سببا في الفشل الانتخابي للحزب، لعمل قيادة جديدة ذات مشروعية انتخابية، يعول عليها لإصلاح الأداة الحزبية.
حجتهم القانونية أيضا أن القانون التنظيمي للأحزاب، لا يميز بين المؤتمر العادي أو الاستثنائي، وأن العبرة بعقد الحزب للمؤتمر في آجاله، وأن ذلك لا يؤثر على استحقاق الدعم العمومي، وحتى ولو كانت حجة فقدان الدعم العمومي متجهة، فإن توفير مدة كافية للقيادة الجديدة لتقوم بمهامها في إصلاح الحزب وإعادة الروح إليه، وتأمين تماسكه الداخلي، يمكن أن يضحى من أجلها بالدعم العمومي، لأن هوية الحزب النضالية، لا يمكن أن تجعل قراره الاستراتيجي المرتبط بإصلاح الأداة الحزبية متوقفا على مجرد دعم عمومي.
قيادة الحزب المستقيلة وضعت بيدها الحبل على عنق الحزب، وتسببت باختيارها التنظيمي في وضع الحزب أمام المأزق، الذي تستثمره اليوم، من أجل أن تبرير تقييد ولاية القيادة الجديدة بسنة واحدة
يبدو الخلاف تنظيميا صرفا، لكن في الجوهر، هناك كثير من السياسة فيه، فالقيادة المستقيلة، تدرك أن ابن كيران هو المرشح فوق العادة لشغل منصب الأمين العام، وتدرك أن شرعيتها انتهت بالنكسة الانتخابية، وأن المنافس غير موجود، ولذلك، تريد اللعب بورقة تقييد الولاية في سنة، لتحقيق أحد هدفين: إما تقييد زمن ولاية ابن كيران وتوريطه في فشل إعداد المؤتمر العادي في ظرف سنة، بما يعنيه الإعداد من تأمين التماسك الداخلي، وإعداد جواب جماعي للمرحلة، وخوض كل الاستحقاقات التنظيمية والانتدابية التي يفرضها المؤتمر، أو دفعه إلى خارج مربع الترشيح، بما يسمح بتأجيل دوره السياسي لسنة كاملة، ووضع الحزب في يد قيادة تنظيمية، توفر معها فرصة من الوقت لإعادة ترتيب أوراق إزاحة بن كيران بعد ذلك.
لعبة سد الطريق على ابن كيران، أو محاولة توريطه في مهمة كبيرة بزمن ضيق، لوضعه أمام سيناريو الفشل، انتبه إليها ابن كيران مبكرا، وأعلن أنه لن يكون معنيا بالترشح في حال أقر المؤتمر تقييد قيادة الحزب لمدة ولاية واحدة، مرسلا الإشارة إلى القصد وراء هذا السيناريو، الذي صيغ بلغة تنظيمية، حتى يخفي الجوهر السياسي الثاوي خلفه.
بل إنه لم يكتف بذلك، فقد وجه كلمة الأربعاء ليلا، على صفحته في الفيبسوك، يجيب فيها بشكل قوي عن الحجج التي اعتمدتها الأمانة العامة في اقتراحها، منتقدا عليها اللعب بورقة الاستقالة، وتمييزها بين الاستقالة السياسية والاستقالة التنظيمية، معتبرا أنه ليس من حقها مطلقا أن تتدخل لتقييد ولاية قيادة جديدة، ذات مشروعية انتخابية.
ما يكشف هذه اللعبة التي أدخلت العدالة والتنمية لهذا النفق التنظيمي المغلق؟ هو أن المؤتمر العادي للحزب كان يفترض أن ينعقد في نهاية السنة (ديسمبر 2021) والمجلس الوطني، سبق له في دورة استثنائية أن انتخب لجنته التحضيرية، مما يطرح التساؤل عن سبب دعوة الأمانة العامة المستقيلة للحزب إلى مؤتمر استثنائي وليس مؤتمرا عاديا؟
وما السبب الذي دعاها إلى رفض صيغة أخرى للاستقالة، وهي أن يستقيل الأمين العام استقالة مكتوبة يترتب أثرها القانوني، بحكم أنه يمثل مجموع الأمانة العامة وينوب عنها في تحمل مسؤولية الفشل، ويترك لنائبه، السيد سليمان العمراني، أن يدبر ما تبقى من الأشهر لترتيب موعد انعقاد المؤتمر العادي في نهاية السنة بعدها بأشهر قليلة، حتى يكون الحزب في حالة مواءمة تامة مع القانون التنظيمي للحزب، وحتى لا يحرم من الدعم العمومي؟
أسئلة، تشير إلى أن قيادة الحزب المستقيلة وضعت بيدها الحبل على عنق الحزب، وتسببت باختيارها التنظيمي في وضع الحزب أمام المأزق، الذي تستثمره اليوم، من أجل أن تبرير تقييد ولاية القيادة الجديدة بسنة واحدة مخافة عدم المواءمة مع القانون التنظيمي للأحزاب وخشية من ضياع الدعم العمومي على الحزب!
الخطير في الأمر، أن هذا اللعب، الذي بدأ بالاستقالة التي ليست باستقالة، وبالمؤتمر الاستثنائي عوض العادي، وبالقيادة الجديدة، التي بدل أن تكون قيادة سياسية لتصحيح أوضاع الحزب وإخراجه من الأزمة، فصارت مجرد لجنة تحضيرية لمؤتمر عادي يقام بعد سنة، والمؤتمر الذي وضع على عاتقه إنقاذ الحزب، فتحول إلى مجرد مؤتمر يؤمن تدفق الدعم العمومي.
هذا اللعب بمختلف عناصره، يخفي أزمة كبيرة داخل العدالة والتنمية، هي أزمة الثقة داخل القيادة التاريخية، تلك الأزمة، التي تسببت في شرخ كبير اخترق قيادة التنظيم كله، ونزل إلى قاعدته، وتحول إلى خلاف فكري وسياسي وتنظيمي ونفسي، ويوشك أن يعرض الحزب لانقسام في حالة ما إذا فشل المدخل التنظيمي في الجواب عن المعضلة.
كاتب وباحث مغربي