كان العنوان كافيا للمضي في قراءة المقال حتى نهايته "محو الأمية.. وجهة نظر مغايرة"، ثم إن كاتبه؛ الدكتور محمد صفيّ الدين خربوش، ذو حيثيات متنوعة، على الصعيدين السياسي والأكاديمي.
في مقال سابق، يتم التعريف به على أنه "أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة" لكنه في الواقع اجتاز عدة مواقع أكاديمية (رئيس قسم العلوم السياسية بكلية السياسة والاقتصاد- جامعة القاهرة)، ومناصب حكومية (وزير سابق للشباب، ورئيس سابق للمجلس الأعلى للشباب- قضى فيهما أكثر من عشر سنوات)، ومسئوليات ومهام حزبية (عضو أمانة التثقيف والتدريس السياسي بالأمانة العامة للحزب الوطني الديمقراطي، عضو لجنة الشباب في ذات الحزب)، وهو حاليا، عضو مجلس النواب (عن حزب الشعب الجمهوري، وهو الحزب الثاني من حيث عدد أعضاء المجلس، وهو الأمين العام للحزب).
هذه الحيثيات، تضاف لجاذبية العنوان، وتجعل قراءة المقال، واجبة، يكفي الانتباه إلى "وجهة نظر"، و"مغايرة"، لكن المقال يكتسب، عندي، أهمية إضافية، إذ يبدو وكأنه: رد، أو تفنيد، أو تعقيب، أو على على أحسن الفروض: وجهة نظر مغايرة لما طرحه الدكتور محمد أبو الغار في مقاله المعنون "تفشى الأمية فى 25 مليون مصرى عار كبير"، والمنشور في ذات الصحيفة "المصري اليوم"، قبل ثمانية أسابيع، من نشر خربوش لمقاله.
عنواني يستعير من أبو الغار كلمة "عار"، وبذلك فإني أعاضده في أفكاره وتحليلاته واستخلاصاته، وهو ونستعرض مقالة الدكتور خربوش باعتباره يطرح فكرة نقيضة، تماما، لفكرة أبو الغار، ثم ننتهي بفكرة الشمول؛ فهو الشمول المالي، الذي سأوضحه، تاليا، والذي سنتبين منه أن الذهنية المسيطرة على الحكم في مصر مصابة؛ في أبسط توصيف ممكن، بازدواج في الشخصية، أو أنها تحمل سمات عقلية "استعمارية، استعلائية" تقود بها مقدرات البلاد.
سأذكر، أولا، أن المادة (25) من الدستور المصري، المعدل في (2014) تنص على أن: "تلتزم الدولة بوضع خطة شاملة للقضاء على الأمية الهجائية والرقمية بين المواطنين فى جميع الأعمار، وتلتزم بوضع آليات تنفيذها بمشاركة مؤسسات المجتمع المدنى، وذلك وفق خطة زمنية محددة".
ثم، سأذكر، ثانية، المواد الثلاث الأولى من "قانون رقم 8 لسنة 1991 في شأن محو الأمية وتعليم الكبار"، والتي تنص على أن: "محو الأمية وتعليم الكبار واجب وطني ومسئولية قومية وسياسية تلتزم بتنفيذه الوزارات ووحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة واتحاد الإذاعة والتلفزيون والشركات والأحزاب السياسية والاتحاد العام لنقابات العمال والنقابات والجمعيات وأصحاب الأعمال. وذلك وفقا للخطة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار وطبقا أحكام هذا القانون.
يقصد بمحو الأمية في حكم هذا القانون تعليم المواطنين الأميين للوصول بهم إلى مستوى نهاية الحلقة الإبتدائية من التعليم الأساسي.
ويقصد بتعليم الكبار إعطاؤهم قدرا مناسبا من التعليم لرفع مستواهم الثقافي والاجتماعي والمهني لمواجهة المتغيرات والاحتياجات المتطورة للمجتمع، واتاحة الفرصة أمامهم لمواصلة التعليم في المراحل المختلفة.
يلزم بمحو أميته كل مواطن يتراوح عمره بين الرابعة عشرة والخامسة والثلاثين غير المقيد بأية مديرية ولم يصل في تعليمه إلى مستوى نهاية الحلقة الإبتدائية من التعليم الأساسي".
أوردت نص المادة الدستورية، وبعض مواد القانون كي أكون واثقا وأنا أقول: ليس عار، فقط، يا عزيزي الفاضل أبو الغار، بل جريمة، جريمة يرتكبها كل الذين نصت عليهم المادة الأولى، من القانون، وكي أقول، أيضا، أن النص الدستوري، ونصوص القانون، لها؛ على الأقل على المستوى المعنوي، نفس قوة المواد الدستورية والقانونية الآخرى، فإذا تجاوزت، وأنت تقود مركبة، السرعة المقررة، فستدفع الغرامة المالية المقررة، هذا قاعدة قانونية، يقر بضرورة الالتزام بها غالبية المواطنين، واستنادا على هذا، فإن كل الذين ورد ذكرهم في المادة الأولى من القانون يرتكبون جريمة عدم تنفيذ "واجب وطني ومسئولية قومية وسياسية"، واستنادا على هذا، أيضا، أعتقد أن الدكتور خربوش يرتكب جريمة الحض على تلك الجريمة، بالإضافة إلى ارتكابه، هو نفسه، جريمة عدم تنفيذ "واجب وطني ومسئولية قومية وسياسية"، كونه الأمين العام لحزب، وعضو مجلس النواب، وربما، وهذا لا أعلمه، لكني لا أستبعده، فقد يكون من أصحاب الأعمال أو الشركات وأعضاء النقابات أو الجمعيات.
يسرد، خربوش، ذكرياته مع "محو الأمية" من الطفولة، مرورا بالدراسة، والتجنيد، وبعد التخرج من الجامعة، وعقبها، لقرابة أربعين عاما، و"أثناء عملي ف وزارة الشباب، وفي المجلس القومي للشباب لأكثر من عشرة أعوام".
ومن كل هذ التجارب العريضة، يستخلص: وقد بذلت جميع مؤسسات الدولة، ولا تزال، جهودا تستحق الثناء والتقدير للقضاء على الأمية.
ثم يستدرك: "بيد أن الثابت أن كل تلك الجهود لم تسفر عن تحقيق الهدف السامى بالقضاء على الأمية، والتى تتزايد نسبتها بين البالغين، وبدرجة أكبر لدى الفتيات والسيدات، أو لا تنخفض على أحسن تقدير".
هذا "تقدير، تقرير، حكم" رئيس قسم العلوم السياسية، الأستاذ الجامعي (منذ 1986)، والمسئول الحكومي، السابق "لأكثر من عشرة أعوام"، والقيادي، السابق، في الحزب الحاكم (للمدة ذاتها، فالمنصب الحكومي كان قرينا بالدور الحزبي)، والقيادي الحزبي وعضو مجلس النواب، حاليا: جميع مؤسسات الدولة فشلت.
ينقل لنا أبو الغار، طبيب أمراض النساء والتوليد الأشهر، والمثقف الكبير، والسياسي "الهاوي" الواقع كما يجب أن ينقله أبرع أساتذة العلوم السياسية: نصف المجتمع المصري يعاني من الأمية.
فتقدير، أبو الغار، أن الأمية، الآن، ليست، فقط، الجهل بالقراءة والكتابة، ويقصل في شرح منطلقه، وتقديره، هذا: "حقيقة الأمر أن التسرب الكبير فى المدارس فى المرحلة الابتدائية يؤدى إلى أعداد ضخمة من الذين يقال عنهم (يفكوا الخط)، وهؤلاء لا يُحسبون من الأميين، وهناك نوع آخر من الأمية مسجل فى الإحصائيات العالمية ولكن لا يتم رصده فى مصر- ربما لصعوبة ذلك - وهو الأمية الوظيفية، وهى عدم القدرة على استخدام القراءة والكتابة ومبادئ الحساب أثناء العمل، وبالتالى هذه المجموعة لا تستطيع مساعدة الإنسان أو المجتمع أو أداء العمل بكفاءة. ولن أتحدث عن الأمية الثقافية التى يتم رصدها فى بعض البلاد". وينتهي إلى: "إذا أضفنا الذين يفكّون الخط إلى المتسربين من المدارس والأمية الوظيفية، فربما تصل النسبة إلى نصف المجتمع".
وقد قدم، أبو الغار، لمقاله باستخلاص بالغ الدقة، واضح المعني، طاهر النية: إنها فعلًا كارثة كبرى تعوق أى تقدم، وتضع حاجزًا رهيبًا أمام انتشار الحداثة فى مصر التى هى أساس الحضارة فى عصرنا الحالى.
وكأبرع ما يكون الباحث ينقل أبو الغار تصريحات رئيس الهيئة العامة لتعليم الكبار: "مصر ستكون خالية من الأمية عام 2030".
ويعقب، أبو الغار: "وهو أمر لا يمكن أن يحدث لو استمرت سياسة الدولة بهذه الطريقة".
اقرأ أيضا : مدائح تنويرية في "منة الله السيسي"!
ويقدم الدليل: "هناك 25 مليون أمىّ يقوم بالتدريس لهم 5000 مدرس، بواقع مدرس واحد لكل 5000 أمى. وتقول الهيئة إن الدارسين فى محو الأمية 18 مليونًا، بينما كل الأميين 25 مليونا، وهو أمر غير منطقى".
ثم يستشهد، أبو الغار، برأي خبير: "صرح رئيس الجامعة البريطانية الجديدة بأن مصر طبقت أفشل نظام فى العالم للقضاء على الأمية، وأن 5% من العاملين فى الجامعة من الأميين".
ويطرح، أبو الغار، السؤال الأهم: هل استطاعت دول مشابهة لنا الخروج من مستنقع الأمية؟، ويجيب عليه: استطاعت كوبا وهي دولة شمولية أن تخفض نسبة الأمية من 65% إلى 4% فى فترة وجيزة، واستطاعت المكسيك وهي دولة شبه ديمقراطية خفض نسبة الأمية إلى 6%.
يجزم، خربوش: "لا أعتقد أن مصريا يحب وطنه لا يخجل من استمرار وجود هذه الظاهرة فى مصرنا العزيزة، صاحبة الحضارة العريقة".
خجل! فقط؟
فلنمضي مع منطق الأستاذ الدكتور النائب، ونرى إلى ماذا ستفضي وجهة النظر المغايرة.
هذه هي المقدمات، الفرضيات، التي يقدمها، خربوش: من المؤكد أن نسبة الأمية كان من المحتمل أن تصل إلى الصفر أو تقترب منه، لو تم إيقاف التسرب من التعليم خلال الستين عاما الماضية.
للأسف، لم يحدث، هذا هو الواقع، فما هي الفرضية الثانية؟
يجيب، خربوش: ولا شك أن الأميين والأميات دون سن الستين عاما هم نتاج عدم الاستيعاب، أى عدم الذهاب إلى المدارس، أو التسرب بعد فترة من الالتحاق بالمدارس.
فلنفترض، فماذا يترتب على هذا؟
يجيب، خربوش: ومن ثم، آن الأوان لتغيير الطريقة التى تم التعامل من خلالها مع تلك الظاهرة خلال فترة تجاوزت نصف القرن، حيث ثبت عدم جدواها.
الطريقة التي ثبت عدم جدواها، هي محو أمية وتعليم الكبار، هذا ما يقصده أستاذ العلوم السياسية، الوزير والقيادي السابق في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، والأمين العام لحزب الشعب الجمهوري، وعضو البرلمان، الحالي.
محو أمية وتعليم الكبار فشلت، الدولة فشلت، دولة مبارك، ودولة السيسي، ودولة السادات، ودولة عبد الناصر، فشلت، فما الحل يا دكتور خربوش؟
هنا، يكشف، خربوش، النقاب عن "مغايرة"، ويصرح: "يجب أن توجه جميع الجهود إلى تحقيق هدفين، أولهما الاستيعاب الكامل لكل الأطفال فى مرحلة التعليم الأساسى من ناحية، والآخر المنع التام لحدوث أى تسرب خلال تلك المرحلة. وأقترح أن تتوقف الهيئة عن بذل أى جهد فى تعليم الكبار، وقد يكون من الملائم أن تتولى تلك المهمة منظمات المجتمع المدنى".
ثم يختم: "قد يبدو هذا الاقتراح غريبا بالنسبة للكثيرين، بيد أن تطبيقه الصارم يضمن القضاء على الأمية خلال الخمسين عاما القادمة، إن لم يكن قبل ذلك، من خلال الاستيعاب الكامل لكل من بلغ سن الالتحاق من الأطفال، ومنع أى احتمال للتسرب من مرحلة التعليم الأساسى والتحول إلى الأمية مرة أخرى".
هذه وجهة نظر خربوش المغايرة: الموضوع، ببساطة، مجرد خجل، فلا حل ممكن، نخجل لمدة نصف قرن قادمة.
وهذه وجهة نظر أبو الغار: "أعتقد أن الدولة المصرية إذا وقفت بجدية خلف مشروع تمت دراسته بعناية، فسوف يقفز بمصر إلى الأمام خطوات كبيرة ويمحو هذه السُّبة على جبين كل المصريين وكل نظم الحكم خلال قرن من الزمان".
لم يعد لدينا سوى الحديث عن الشمول المالي، وهو؛ بحسب تعريف بنك تنمية الصادرات المصري: أن يجد كل فرد أو مؤسسة في المجتمع منتجات مالية تناسب احتياجاتها، على سبيل المثال حسابات توفير، حسابات جارية، خدمات الدفع والتحويل، التأمين، التمويل والائتمان، وغيرها من المنتجات والخدمات المالية المختلفة، التي تقدمها المؤسسات المالية الرسمية مثل البنوك وهيئة البريد وشركات التمويل متناهي الصغر وغيرهم.
وقد طلب البنك المركزي في مارس 2020 بضرورة قيام البنوك بأنشاء إدارة مستقلة للشمول المالي مع ضرورة اعداد استراتيجية متوسطة الاجل (3- 5 سنوات) لتحقيق الشمول المالي.
ممكن، إذا، أن يجد كل فرد منتجات مالية (مذكورة في الفقرة السابقة) في ظرف أقصاه أربعة أعوام من الآن، لكن على الملايين من المصريين ("كل المصريين"؛ كما قدر أبو الغار) عليهم بحسب وجهة نظر الدكتور خربوش التعايش مع الخجل لنصف قرن قادم.
أي عار نحيا؟ وإلى متى؟
الدولة الجديدة، الوعي، تجديد الخطاب الديني، حتشوفوا اللي عمركم ما شفتهوش.
فعلا: شمول مالي، شامل، وأمية تتفشى.
أشد الاستعماريين انحطاطا لم يكن يحلم بهذا.