(1)
إن كان هناك ثمة انقلاب فعلي معلن في السودان، فالمؤكد أنه ليست تلك الوقائع المحدودة التي اقتصر مسرحها على بضع ثكنات عسكرية، حيث تشير المعطيات المتاحة إلى أنها تعبير عن حالة تمرّد داخلي على قيادة الجيش أكثر من كونها محاولة تحرك انقلابي بالمصطلح الفني المعروف، بل هو انكشاف مدى عزلة الطبقة الحاكمة، من العسكريين والمدنيين على حد سواء، عن القواعد في القوات المسلحة ووسط الجماهير التي طالما استندوا عليها وراهنوا باسمها لضمان احتكار السلطة بمعادلتها الراهنة، في وقت ظل استمرار سيناريو انقلاب "الشركاء عسكريين ومدنيين" على الوثيقة دستورية وعدم الوفاء باستحقاقات الانتقال، فضلاً عن الآداء المتواضع للغاية في إدارة شؤون الحكم بكل تبعاته.
ولذلك لم تكن الخطابات الشديدة التطرف والاتهامات المتبادلة سوى خطاب مباشر من كل طرف لقواعده في محاولة لاستعادة الثقة المفقودة برمي اللوم على الطرف الآخر فيما وصلت إليه أحوال البلاد الآخذة في التردي بوتيرة متسارعة.
(2)
اللافت في الخطاب العدمي لشركاء الانتقال أنه لم يحمل جديداً لم يكن معلوماً من قبل، ولم يتعد سقف استمرار لعبة التلاوم، فالحجج التي سيقت وحتى التعبير عنها هي ذاتها المسائل التي أثيرت من قبل في أوقات مختلفة، حيث يجري طيها سريعا بين الفرقاء وهم يبتسمون تحت أضواء فلاشات الكاميرات، فالحفاظ على السلطة بمعادلتها الاحتكارية الراهنة أم بكثير من التفريط فيها وفقدان بمكاسبها بخلافات تبدو ثانوية في أجندة الطرفين.
من الواضح أن هناك أسباباً أكثر عمقاً في تفسير اندلاع دورة جديدة من التلاوم بين المكونين العسكري المدني، بعضها يتعلق بالمؤسسة العسكرية، والآخر يتعلق بالأطراف المدنية، وما يلي الجانب العسكري في هذا الخصوص يأتي من تزايد الاحتقان داخل القوات المسلحة ذاتها على نحو بات يشكل ضغوطاً كثيفة وتهديداً ماثلاً لقيادة البرهان، وأسباب هذه الاحتقان متنوعة من بينها الضغوط الاجتماعية بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية إلى درجة مزرية بات معها توفير الحد الأدنى من سبل العيش مطلباً عسيراً لكل السودانيين، ومن بينهم منسوبي القوات النظامية، وإشارات البرهان في خطابيه بالمدرعات والمرخيات كانت كافية في قراءة انعكاس هذه الضغوط على أفراد القوات المسلحة بكل تبعاتها، وكغيرهم من المواطنين فإنهم يحملون الحكومة بكل مكوناتها بما فيها العسكريين مسؤولية تردي الوضع المعيشي.
(3)
وثمة جانب آخر لأسباب التذمر والتململ وسط نخية العسكريين الذين يتزايد وسطهم الإحساس بالمهانة وتلاشي تميزه مكانته ودورها مع صعود جيش موازي منافس كالدعم السريع، كما يرون تعرض مؤسستهم لهجوم كاسح من الأطراف المدنية، وفي نظام ثقافة عسكرية شديد التحيز للقوات المسلحة فإن من شأن مثل هذه "الاستهداف المنظم" في تقديرهم لمؤسستهم بكل الإرث المشكل لوعيها الجمعي، وفي ظل ما يرونه تقاعساً من قيادتهم، أو بالأحرى تماهياً مع هذه الأطراف، فقد أصبح تنامي هذا الشعور وانتشاره وسط منسوبي القوات المسلحة يشكل خطرا بات يستهدف هذه القيادة ذاتها بأكثر مما يستهدف الأطراف المدنية بشكل خاص، فهي المسؤولة في نظرهم من الوصول إلى ما يعتبرونه هواناً بسبب تراخي قيادتهم في الحفاظ على هيبة ودور المؤسسة لعسكرية، ولعل الطريقة التي تحركت بها قيادة الجيش لاحتواء أحداث الثلاثاء، وما كشف عنه مضمون حديث البرهان الذي طغى عليه روح البحث عن مبررات، مع تفادي إدانة التحرك في ذاته، مما يشير بوضوح إلى قوة تأثير هذه العوامل الداخلية في طريقة تعامله مع الحدث في محاولة للحفاظ على وضعيته واسترداد الثقة به شخصياً.
(4)
أما فيما يتعلق بالجانب المدني فإن تسريع التململ وتفجير التذمر وسط قواعد المؤسسة العسكرية، يعود بصفة أساسية إلى مفارقة رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك للدور المحوري البالغ الأهمية الذي ظل يلعبه في حفظ التوازنات بين مكونات عملية الانتقال من الشركاء المتشاكسين، لا سيما فيما يتعلق بالشراكة المدنية العسكرية التي طالما بشّر بها وظل حريصاً على الترويج لها محلياً وفي المحافل الدولية باعتبارها نموذجاً سودانياً فريداً.
غير أنه منذ بضعة أشهر فارق هذا النهج، لا سيما منذ 22 حزيران (يونيو) الماضي حين أطلق مبادرته لمواجهة التحديات الخطيرة التي أكد عليها كمهدد ليس أمام الانتقال فحسب، بل لوجود السودان نفسه، فقد تبنى الدكتور حمدوك خطاباً مغايراً تماماً لدوره المعهود كضمانة التوازن الدقيق في شراكة الانتقال العسكري ـ مدنية، فقد انتقل مباشرة، دون سابق إرهاصات، إلى وضع نفسه في خانة خصوم المكون العسكري، وليس واضحاً تماماً ملابسات ذلك، وما إن كانت تعبيراً عن قناعة ذاتية مستجدة أم بوحي من أطراف أخرى لا سيما من دائرته الصغرى المقربة.
لا شك أن غياب الدور الوازن لرئيس الوزراء في هذه المعادلة المعقدة، وانحيازه أيضاً لإحدى أطراف الصراع المدني المدني، وتسليمه إدارة المبادرة لهذا الطرف تحديداً، الساعي لإقصاء الآخرين وتضييق قاعدة الانتقال بدلاً من توسيعها، قضت تماماً على فرصة ثمينة كان من الممكن أن يلعبها رئيس الوزراء في إبقاء شراكة الانتقال حية وإنعاشها بتوسيع قاعدتها
فقد جاءت فحوى المبادرة على الرغم من مقدمتها التي تقر بوجود خطر ماثل بسبب التشظي والانقسامات وسط مكونات الانتقال المختلفة، ودعوته إلى توسيع دائرته إلا أنه انتهى فعلياً إلى توسيع دائرة الشقاق، فقد بدت المبادرة وكأن المعني بها مستهدفاً طرفاً واحداً هو المكون العسكري، معتبراً إصلاحه، يقرأها العسكريون تفكيكه، أس المأزق الوطني الراهن، ربما لم يكن الأمر ليثير استغراباً لو أنه جاء مصحوباً بدعوة حاسمة مماثلة لإصلاح المنظومة السياسية الفاشلة بامتياز التي تمثل الوجه الآخر في الأزمة.
(5)
لا شك أن غياب الدور الوازن لرئيس الوزراء في هذه المعادلة المعقدة، وانحيازه أيضاً لإحدى أطراف الصراع المدني المدني، وتسليمه إدارة المبادرة لهذا الطرف تحديداً، الساعي لإقصاء الآخرين وتضييق قاعدة الانتقال بدلاً من توسيعها، قضت تماماً على فرصة ثمينة كان من الممكن أن يلعبها رئيس الوزراء في إبقاء شراكة الانتقال حية وإنعاشها بتوسيع قاعدتها مما يسهم في إعادة ضبط مسار عملية الانتقال والوفاء باستحقاقاتها، على الرغم من كل هذه الزوابع التي تحيط بها.
وما زاد الأمور ضغثاً على إبالة مسارعة رئيس الوزراء إلى تبني تفسير هذه الجماعة لأحداث الثلاثاء الماضي بدون تروي ونظر في العواقب مما هو مطلوب من مسؤول رفيع في مكانته الحساسة، بتقديم رواية خاصة بالحكومة مناقضة لرواية الجانب العسكري، حتى بعد أن تبين عمق أسباب هذا التحرك العسكري المتعلق بدوافع داخلها، ولعل السؤال الأكثر أهمية هل تخلى السيد رئيس الوزراء عن لعب دور حفظ التوازن بين مكونات الانتقال وهو مدرك لعواقبه وتبعاته، ممتلكاً لأدوات السيطرة عليه، أم أنه وجد نفسه هكذا دون سابق قصد أو تدبير في دوامة جرفته على حين غرة، ولم يكن من أوحوا له بالدخول فيها متحسبين لتبعاتها.
ذلك أنه من المرجح أن محاولة الانقلاب الفاشلة لم تطو صفحتها بعد ولا تأثيرها في المستقبل المنظور، فهي مؤشر على إمكانية تكرارها على نحو أشد كارثية إن بقيت المعطيات ذاتها التي قادت إليها على حالها.