في الوقت الذي فرضت حركة طالبان سيطرتها على أفغانستان بقوة السلاح وصناديق الرصاص، وأجبرت الولايات المتحدة وحلفاءها على الانسحاب والتخلي عن صنيعتها الحكومة الأفغانية، كانت حركات الإسلام السياسي تتقهقر في
تونس والمغرب.
فقد مُني حزب "
العدالة والتنمية"
المغربي بهزيمة انتخابية قاسية، وأزيح حزب "
النهضة" التونسي بقرارات استثنائية غير ديمقراطية. وتنطوي تلك المفارقة على خطورة بالغة، فالعبرة الواضحة والخلاصة المريرة أن مشاركة الإسلام السياسي في أنظمة سلطوية مدعومة من دول إمبريالية غربية مصيرها الفشل. والمفارقة الأخرى أن الفشل ينسب دوماً إلى حركات الإسلام السياسي، وليس إلى الأنظمة السلطوية ورعاتها ممن يتحكمون في شروط المشاركة السياسية وحدودها. كل ذلك يقود إلى السؤال حول جدوى التوجه إلى صناديق الانتخاب دون اللجوء إلى صناديق الرصاص.
منذ صدور كتاب المفكر الفرنسي الخبير في شؤون الحركات الإسلامية أوليفييه روا "فشل الإسلام السياسي" في مطلع التسعينات من القرن الماضي، باتت مقولة "فشل الإسلام السياسي" ثيمة راسخة في التعاطي مع الحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، دون فهم وتحليل نقدي لمفهوم الفشل الذي قصده روا ولخصه بفشل مشروع إدارة السلطة والمجتمع عبر دولة إسلامية. ورغم الانتقادات الواسعة لمقولة روا وفشلها الذريع وعدم قدرتها على التنبؤ، فهي لا تتحدث عن فشل الأنظمة السلطوية المناهضة للديمقراطية، والتي تتمتع برعاية الدول الغربية الإمبريالية.
الفشل ينسب دوماً إلى حركات الإسلام السياسي، وليس إلى الأنظمة السلطوية ورعاتها ممن يتحكمون في شروط المشاركة السياسية وحدودها
إن الحكم على ظاهرة الإسلام السياسي بالفشل لا يعدو كونه مقولة سلطوية بائسة تحاول أن تخفي فشلها وبؤسها، فلا شكَّ أن الأنظمة السلطوية القائمة، والتي تشكِّل جزءاً من مشروع الثورة المضادة في المنطقة حسب آصف بيات، قد قوَّضت شروط الانتقال الديمقراطي في المنطقة. فالأنظمة الاستبداديَّة كالنظام المصري والإماراتي والسعودي والبحريني، وهي أنظمة مدعومة من القوى الغربية، قد خنقت كلَّ المشروع الديمقراطي في المنطقة. ولا يقتصر الأمر على قمع شخصياتٍ تنتمي لمشروع ما بعد الإسلاموية، بل يشمل هذا القمع أحزاباً علمانية ويسارية، بل ويشمل كلَّ حزب مستقلٍّ يُشكِّل معارضةً جدِّيةً لهذه الأنظمة، بل إن هذه الأنظمة لا تتسامح حتى مع منظَّمات المجتمع المدني المستقلَّة، ولا تقبل بنشاط مجموعات حقوق الإنسان أو حقوق المرأة.
تحتل الأنظمة السلطوية العربية مكانة مميزة في العداء للديمقراطية والحرية، حسب بيانات منظمة "فريدم هاوس"، إذ ترزح شعوب العالم العربي تحت حكم غير رشيد وقمعي ودكتاتوري، إلى جانب ما يقرب من ثلثي سكان العالم ممن يعيشون في ظل أنظمة مستبدّة، وبين ملياري شخص يعانون من حكم قمعي. ويشير ستيفن كوك في كتابه "السيطرة وليس الحكم" إلى أن الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط أثبتت قدرة على السيطرة؛ حطمت كل نظريات التحول الديمقراطي، فيلاحظ الكاتب أنه بالرغم من أن قادة الشرق الأوسط قد تغيروا سواء بالتوريث أو بمؤمرات البلاط أو حتى بالانتخابات، فإن النظام السياسي السلطوي وشبه السلطوي في هذا الجزء من العالم قد بقي مستقراً بطريقة مثيرة للإعجاب.
إن الاستقرار المثير للإعجاب في الشرق الأوسط هو نتاج العلاقة الراسخة بين السلطوية والإمبريالية، والذي يقوم على التضحية بالديمقراطية والاستقرار معاً. وقد أدت هذه المقاربة إلى تدمير عدة دول في العالم العربي (سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال)، وتعاني بقية الدول العربية من الهشاشة وضعف الاستقرار دون أدنى اعتبار.
وقد لخّصت كوندليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط أثناء كلمتها في الجامعة الأمريكية في القاهرة في حزيران/ يونيو 2005، بالقول: "على مدى ستين عاماً، سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحقيق الاستقرار على حساب الديمقراطية في هذه المنطقة، ولكننا لم نحقق أياً منهما". لكن جون كيري وزير، خارجية الولايات المتحدة السابق، ادعى بعد الانقلاب على مسار الديمقراطية في مصر في تموز/ يوليو 2013 بأن الجيش المصري كان بتدخله "يستعيد الديمقراطية". لكن ذلك يتناقض مع أبسط البداهات، فمن غير الممكن الاعتماد على كيان سلطوي ذي طبيعة هرمية في حماية وتعزيز الانتقال الديمقراطي.
وحسب إيريكا تشينويث، الأستاذة المساعدة في الدراسات الدولية بجامعة دينفر، فإن "حكام الشرق الأوسط لم يكن عليهم ضغط خارجي ليدفعهم صوب الديمقراطية لأن أنظمتهم مستقرة، والآخرون يريدون منهم البقاء على حالتهم المستقرة".
خطيئة الإسلام السياسي الكبرى هي الاندماج في بنية الأنظمة السلطوية والخضوع لاشتراطاتها وأهوائها، فقد أدى الخوف من عودة الاستبدادية إلى طغيان الانشغال بنجاح الديمقراطية، وكأن السلطوية غابت فعلاً حتى تعود، حيث تخلى الإسلام السياسي في المغرب وتونس عن قيمه ومبادئه وهويته
إن خطيئة الإسلام السياسي الكبرى هي الاندماج في بنية الأنظمة السلطوية والخضوع لاشتراطاتها وأهوائها، فقد أدى الخوف من عودة الاستبدادية إلى طغيان الانشغال بنجاح الديمقراطية، وكأن السلطوية غابت فعلاً حتى تعود، حيث تخلى الإسلام السياسي في المغرب وتونس عن قيمه ومبادئه وهويته وأصبح أداة قمعية بيد السلطوية، وهو ما أدى بهذه الأحزاب إلى نسج تحالفات وقتية للحفاظ على المكاسب الحزبية، وأفضى إلى غياب رؤية اقتصادية اجتماعية خارج الأطر النيوليبرالية التقليدية والهروب باتجاه قضايا جانبية، حيث هيمنت على النقاش مسألة سياسات الهوية، وأجندة مكافحة الإرهاب، وجرى تضخيم المخاطر الأمنية بطريقة كاريكاتورية، تحت ذريعة المحافظة على الاستقرار.
وفي خضم جدالات الهوية الدينية العلمانية راكمت السلطوية من نفوذها واحتضنت طبقة رجال الأعمال النيوليبرالية المعولمة التي ضاعفت نفوذها وثرائها، وفي ظل رهاب الإرهاب وسّعت السلطوية من نقوذ المؤسسة العسكرية وحضورها وتضخمت ميزانيتها.
إن الحديث عن الفوز والخسارة في انتخابات تجري تحت أنظمة غير ديمقراطية لهو مهزلة مملة، إذ لا تعدو الانتخابات في العالم العربي عن كونها لعبة بيد النظام السلطوي لا صلة لها بالديمقراطية. فحسب ميلان سفوليك في كتابه "سياسات الحكم السلطوي"، هناك خصائص جوهرية تميز الحكم السلطوي عن الحكم الديمقراطي، هاتان الخاصيتان هما كالآتي: الأولى هي أن الحكم السلطوي يفتقر لسلطة محايدة تعطي ضمانات للاتفاقات التي تحدث بين أعضاء النخب الحاكمة، والثانية تتمثل في القابلية المستمرة للجوء إلى استخدام العنف في حل الخلافات.
الحكم على فشل الإسلام السياسي لا يعدو عن كونه دعاية تروجها الأنظمة السلطوية، فظاهرة الإسلام السياسي متنوعة وتضم توجهات وقوى متعددة
تلخص تجربة العدالة والتنمية المغربي أطروحة فشل الإسلام السياسي باعتبارها نتيجة طبيعية للدخول في لعبة الأنظمة السلطوية الفاشلة، فقد تماهي الحزب مع السلطة تحت شعار "المشاركة لا المغالبة"، وركن إلى خيار "الإصلاح في ظل الاستقرار" الذي ترجم عملياً إلى التضحية بالديمقراطية، وانقلب شعار الحزب "صوتك فرصة ضد الفساد والاستبداد" إلى التطبيع مع الفساد والاستبداد، وقاد إلى التفريط في الهوية الإسلامية، حسب حمد طيفوري، وتُرجم بتوقيع رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، على اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، ثم جاءت مصادقة المجلس الحكومي على مشروع قانون لتقنين زراعة القنّب الهندي (مخدّر الحشيش). وقبلها كانت واقعة قانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين الذي أوجب فرنسة التعليم بديلا عن اللغة العربية، ذلك كله في تناقض صارخ مع مرجعية الحزب وهويته.
خلاصة القول أن الحكم على فشل الإسلام السياسي لا يعدو كونه دعاية تروجها الأنظمة السلطوية، فظاهرة الإسلام السياسي متنوعة وتضم توجهات وقوى متعددة. فالإسلام السياسي مصطلح يشير إلى الأفكار والحركات التي تسعى لتأسيس كينونة تناهض المنظومة الإمبريالية والحركة الصهيونية والأنظمة الدكتاتورية، وتهدف إلى إقامة "نظامٍ إسلامي" يتمثّل في دولة تُحكَم بالشريعة وتفرض القوانين الأخلاقية الخاصة بها في المجتمعات الإسلامية. وما حصل في العالم العربي هو فشل لنوع من الإسلام السياسي تخلى عن أهدافه النهائية واندمج في إطار دولة سلطوية استبدادية تتناقض في أبسط تعريفاتها مع مفاهيم الحكم الإسلامي، وبهذا فإن فشل الإسلام السياسي هو فشل لسياسة في إطار اللعبة السلطوية المحسوبة دون ديمقراطية.
twitter.com/hasanabuhanya