العلاقة بين السياسي والنقابي تمثل جدلاً في الأوساط السياسية والنقابية والاجتماعية في آن، ليس فقط في مستوى التنظير وإعلان المواقف لكن أيضاً في مستوى الممارسات وتداعياتها المختلفة، حيث تتلازم المصلحة العامة مع الهدف السياسي، ولا يمكن أن نقطع بين الديمقراطية الاجتماعية والمفهوم السياسي للبناء الاجتماعي، وكل نقابة في النهاية هي مكلفة بالدفاع عن حقوق منظوريها ومصالحهم، وكل تهديد للمشروع المجتمعي الذي تناضل من أجله المنظمة هو في النهاية تهديد لكيانها، وكان من أكبر تداعيات عولمة الاقتصاد وما أفرزه من أشكال هشة للتشغيل يخترق كل الحدود هو استهدف العمل النقابي، وهو ما حتم على المنظمات النقابية ضرورة تجاوز ما هو نقابي صرف للعمل على أن يكون قوة معدلة وفاعلة في القرار السياسي، وهو ما جعل النقابة تصطدم مباشرةً بالسلطة بعد أن ولدت من رحمها خاصة في دول العالم الثالث، ويعد مثال الزعيم النقابي التونسي الحبيب عاشور والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة خير دليل على لعبة العامل والسلطة تلك، فتلك العلاقة التي انتهت بإقصاء الحبيب عاشور، كانت قد بدأت منذ أن وضع يده في يد بورقيبة.
تقسيم الطبقة العاملة
حين جاء أحمد بن صالح على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل، كان يمثل رأياً مستقلاً عن رأي الحزب الحاكم في تونس عقب الاستقلال، وقد استغل بن صالح الفراغ السياسي وغياب حزب معارض للحزب الحاكم في فترة الاستقلال وحاول جعل الاتحاد منظمة نقابية سياسية على غرار حزب العمال البريطاني، ولكن فور اندلاع الخلاف اليوسفي البورقيبي وجد بن صالح نفسه مجبراً على التحالف مع بورقيبة للقضاء على التيار اليوسفي بميوله الناصرية، ولم يفلح بن صالح في مواصلة ما كان يطمح إليه، فقد ولى الدور عليه حيث أصبحت المسألة الملحة أمام بورقيبة هي تصفية الحركة النقابية لتخلو له الساحة ليكون حاكماً فرداً.
تلك المعركة التي بدأت في مؤتمر الاتحاد عام 1956، وهنا برز نجم الحبيب عاشور مجدداً، الذي كان مشهوراً بنضاله النقابي ضد الاحتلال، وقد أسند إليه من بورقيبة مهمة معارضة أفكار بن صالح، ومن خلال رفضه خروج الاتحاد عن وصاية الحزب، ظهر للعيان اتجاهان في المؤتمر، أولهما اتجاه معاد للنضال الاقتصادي والاجتماعي ولكل ما قارب الاشتراكية بقيادة الحبيب عاشور الذي كان رجلاً للسلطة، واتجاه منفتح على تلك الأفكار ويرفض تبعية الحزب بقيادة بن صالح، وهذا الصراع انتهى بتقسيم الطبقة العاملة حينما طلب بورقيبة من الحبيب عاشور بالانشقاق وإنشاء اتحاد عمالي آخر هو "الاتحاد التونسي للشغل" والذي حظى بدعم من الحزب الدستوري.
لقد وفرت حكومة الهادي نويرة لاتحاد الحبيب عاشور مقرات خاصة به، وجعل هذا الموقف الضعيف لبن صالح أن تطيح به الحكومة بكل بسهولة وتنصيب أحمد التليلي بدلاً منه، الذي استطاع أن يجعل الاتحاد العام التونسي للشغل خلال هذه المدة هيكلاً من هياكل الحزب الحاكم، وبسبب التكتلات داخل الاتحاد والحزب الحاكم والزعامات المتصارعة ورفض التليلي هيمنة الحزب المطلقة على الاتحاد ورغبته في المحافظة على هامش من حرية التحرك وايمانه بجدلية الديمقراطية والتنمية، كل ذلك ساعد الحكومة على الإطاحة به، وتعيين الحبيب عاشور رجل مدينة صفاقس مرة أخرى على رأس الاتحاد، ولم يطل بقاء الحبيب حيث تسبب رفض لقرارات مؤتمر بنزرت عام 1964 الذي كانت تقترح تحويل المنظمات النقابية والهنية إلى خلايا تابعة للحزب الحاكم إلى الإطاحة به وزجه في السجن.
اقرأ أيضا: نحو تأريخ للثقافة الأممية عند جيرار ليكلرك
لم يطل بقاء الحبيب عاشور بعيداً عن السلطة، ففي عام 1970 نصب مرة أخرى على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل، وكانت تلك بداية طريقه إلى النهاية.
الخروج من جلباب بورقيبة
منذ أواسط السبعينيات بدأت العلاقات بين الحزب الحاكم واتحاد الشغل تخضع لضغوط كبيرة بسبب المصاعب الاقتصادية المتصاعدة وظهور يسار نقابي ضمن الاتحاد كان يقاوم تجميد الأجور الذي استلزمه ميثاق التقدم الاجتماعي، لقد ضغطت تلك النضالات الراديكالية على التوافق بين الحبيب عاشور والهادي نويرة، والذي كان يمثل الوئام بين الحكومة والاتحاد التونسي للشغل.
كان الهادي نويرة وزير الاقتصاد التونسي وافق على تحالف رأسمال الوطن مع رأسمال الأجانب لتشجيع الاستثمار في تونس التي بدأت تعاني حالة من الانكماش، وأصدرت الحكومة التونسية عدد من القوانين جعلت من تونس جنة ضرائبية، وقد ساعد ذلك المناخ على ازدياد عدد الاضرابات خاصة من العناصر الشابة التي أفرزها النظام التعليمي الجديد، والتي كانت مثقفة بثقافة تؤهلها لاستيعاب الأفكار الجديدة الوافدة من الخارج، وكانت ذات استعدادات اجتماعية لا تخولانها القبول غير المشروط بعقيدة الحزب الواحد وبزعامة الحبيب بورقيبة اللامحدودة التي أقيمت على أساس الكفاح الوطني، وهنا كانت صورة بورقيبة الحديدية بدأت في التصدع، وداخل الحزب بدء البحث عن خليفته.
لقد أدت الهيمنة المطلقة التي فرضتها الحكومة التونسية على الاتحاد إلى دمجه في الوحدة الوطنية ومن ثم في اللعبة السياسية، وجعله معيناً بتناقضات النظام السياسي وهكذا صارع من أجل خلافة بورقيبة مجالاً لنشاط قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل بزعامة الحبيب عاشور الذي ساند الاتجاه المعارض لبورقيبة في الحزب الحر الدستوري الجديدة الذي نادى بديمقراطية الحياة السياسية بزعامة أحمد المستيري زعيم المجموعة الليبرالية.
انتفاضة الخبز
خرج الاتحاد العام التونسي للشغل من التحالف مع بورقيبة وحكومته، وأصبح يطالب منذ أواخر 1977 باستقلال المنظمة، ولم تقتصر مطالب الاتحاد على حقوق العمال، بل رفع مطالب سياسية ذات علاقة بالحريات.
وازاء تكرار الاعتداءات على النقابيين من الحكومة، قررت الهيئة الادارية للاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة الحبيب عاشور أن تدعو لإضراب عام في يناير 1978، كان من أبرز نتائجها سقوط مئات القتلى والجرحى بعد مواجهات بين النقابيين وقوات الأمن التونسي، وانتهت الأزمة بإلقاء القبض على قيادة الاتحاد وعلى رأسها الحبيب عاشور الذي تمت محاكمته مع 700 من النقابيين، ومن هنا تم القضاء على استقلال الحركة النقابية التونسية، وجعل الاتحاد مجرد أداة من أدوات الحزب الحاكم عبر تكوين مكتب تنفيذي جديد من طرف بعض النقابيين المواليين للحزب الحاكم.
في بداية الثمانينيات حاول بورقيبة امتصاص الاحتقان السياسي في تونس، لاسيما بعد العنف المفرط في قمع انتفاضة عام 1978، حيث أفرج عن عن السجناء السياسيين والنقابيين، وعقد مؤتمر للاتحاد العام التونسي للشغل في مايو 1981 تمخضت عنه عودة القيادة النقابية وعاد الحبيب عاشور لرئاسة الاتحاد في نوفمبر من العام ذاته.
لكن الانفتاح السياسي البورقيبي سرعان ما توقف حينما أمر بورقيبة بتزوير الانتخابات التشريعية عام 1981 التي ترشحت إليها أربع قوائم منافسة للحزب الاشتراكي الدستوري، وبالتوازي مع انفجار الحالة الاقتصادية في البلاد، أسهم ذلك في تجدد الاحتجاجات التي بدأت في المعاهد والجامعات لتتسع إلى إضرابات عمالية، وبلغت الأزمة الاجتماعية ذروتها عندما قررت الحكومة مضاعفة أسعار المواد الأساسية دفعة واحدة في ديسمبر 1983 للتخلص من عبء صندوق التعويض، وهو ما شكل انتفاضة الخبز 1984 في يناير.
كان من شان هذه المواجهة أن دشنت عهداً جديداً في تحديد دور مصغر إلى حد ما للاتحاد ضمن الدولة، أملته متطلبات إعادة هيكلة الاقتصاد ضمن توجهات أكثر ليبرالية، استلزمت اتخاذ موقف أكثر سلطوية تجاه العمال، وهو ما جعل الدولة تقدم على خلع الحبيب عاشور وزجه في السجن مرة أخرى في الثالثة والسبعين من عمره عام 1986 وحرمت الاتحاد بعد إعادة تشكيل قياداته وتنظيمه بصورة جذرية، من نصيبه في أجور مستخدمي القطاع العام.
مع صعود بن علي، كان الاتحاد بقياداته الجديدة التي أعيد تشكيلها قد تنكرت للحبيب عاشور زعيمها التاريخي، وهو ما جعل الرجل يدير ظهره للحياة السياسية بكاملها ويتفرغ لقضاء أيامه الأخيرة في هدوء، ليطوي صفحة هامة من تاريخ السلطة والعامل في تونس.