كتاب عربي 21

الإرهابيون ومناهضو الإرهاب

1300x600
في العقدين الماضيين، قسّمت الولايات المتحدة العالم إلى فسطاطين: إرهابيين ومناهضين للإرهاب. وفي حين أن الإرهاب ليس مصطلحاً جديداً، بل يعود تاريخه إلى الثورة الفرنسية، فإن "الحرب على الإرهاب" الأمريكية التي بدأت في عام 2001 قد أعادت تحويله إلى هوس غربي. وفي حين أن الحروب الاستعمارية كانت تشن باسم محاربة "بربرية" و"كفر" غير الأوروبيين منذ القرن السادس عشر، فإن "الحرب على الإرهاب" الجديدة قد أعطت "البربرية" اسماً جديداً. أما التبريرات الرسمية والتغطية الصحفية الغربية المسيطرة فقد بررت شن الحرب على العراق من خلال التلفيق بأن الأخير كان يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه كان ضالعاً في هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، بالإضافة إلى الادعاء المضحك بأن الحروب الأمريكية تهدف إلى جلب الديمقراطية لغير البيض؛ ممن يرزحون تحت الحكم الاستبدادي.

في الأسبوع الماضي، قيل إنه تم الإفراج عن وثائق أمريكية جديدة تشير إلى تورط إيراني مزعوم في هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وذلك تحضيراً لمزيد من العدوان الأمريكي على إيران. يدرك الاستراتيجيون الأمريكيون أنه لا العراق ولا إيران كان لهما دور في هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ما عدا أن الهجمات قدمت للولايات المتحدة ذرائع لتبرير الحرب مصمَمَة للاستهلاك العام الغربي. كما يفهم الاستراتيجيون أيضاً أن أهداف الحروب الأمريكية هي النهب الاقتصادي الإمبريالي والتفوق العسكري، وهو ما تسميه الولايات المتحدة "الديمقراطية". لا يختلف هذا الإدراك الأمريكي عن الدوافع الواعية لأولئك الذين شنوا الحروب الاستعمارية في أوروبا في القرون الخمسة الماضية، والتي فهموها تماماً بأنها لصالح النهب الاقتصادي والربح، والتي أطلقوا عليها اسم "الحضارة".
أصبحت التجربة الإسرائيلية في القمع المستمر للمقاومة الفلسطينية بمثابة نموذج رئيسي يحتذى به في الحرب الأمريكية على الإرهاب

في تاريخ السياسة الإمبريالية في الشرق الأوسط وخاصة السياسة الاستعمارية الاستيطانية لفلسطين والجزائر، كان للإرهاب تاريخ أكثر وضوحاً، وسيكون له دور مهم في الحملة الأمريكية وفي "الحرب على الإرهاب". وفي حين أن فيلم "معركة الجزائر" الشهير، الذي يصور البربرية الفرنسية في قمع الثوار الجزائريين المناهضين للاستعمار، كان الفيلم المفضل لدى مناهضي الاستعمار في جميع أنحاء العالم منذ أن تم إنتاجه في الستينيات، فقد قامت وزارة الدفاع الأمريكية بعرض الفيلم بعد عام 2001 كجزء من التدريب التعليمي لتزويد الاستراتيجيين العسكريين باستراتيجيات حول كيفية قمع العنف ضد الاستعمار المعرّف بـ"الإرهاب".

أما في حالة إسرائيل، فبعد أيام قليلة من أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، أخبر رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، الذي كان في حينها منهمكاً بقمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، الأمريكيين بأن "لكل شخص ابن لادن خاص به. عرفات هو ابن لادننا". وقد أصبحت التجربة الإسرائيلية في القمع المستمر للمقاومة الفلسطينية بمثابة نموذج رئيسي يحتذى به في الحرب الأمريكية على الإرهاب.

يلقي تاريخ مصطلح "إرهابي" في فلسطين منذ الثلاثينيات بعض الضوء على الحملة الأخيرة على الإرهاب. كانت المقاومة الفلسطينية المبكرة في ظل الحكم الاستعماري البريطاني قد اتخذت في الغالب شكل مناشدات قانونية إلى البريطانيين، حيث نظمت السكان وعبأتهم ضد بيع الأراضي للصهاينة، وناشدت الجهات الفاعلة الدولية للمساعدة في الحصول على الاستقلال الوطني. وبحلول عام 1935، اندلعت مقاومة الفلاحين الفلسطينيين وأصبحت ثورة شاملة استمرت من عام 1936 إلى عام 1939. وقد اشتملت الثورة على إضرابات وتظاهرات وحرب مليشيات ضد المستعمرين البريطانيين والمستوطنين اليهود.

وصف البريطانيون عمليات الفدائيين الفلسطينيين بـ"الإرهاب" وقمعوها بعمل عسكري شامل، بما في ذلك إعادة غزو البلاد، وقتل ما يقرب من 9000 فلسطيني وجرح حوالي 30 ألفاً، ونفي العشرات، وتم إعدام أكثر من 100 من الثوار الفلسطينيين. نظم البريطانيون فرق قتل بريطانية- صهيونية مشتركة (تُعرف باسم فرق الليل الخاصة) هاجمت قرى فلسطينية ليلاً وقتلت عدداً لا يحصى من الفلسطينيين.

بدأ المستعمرون اليهود في ذلك الوقت باستخدام أساليب جديدة لقمع المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك تفجير المقاهي بالقنابل اليدوية (في القدس على سبيل المثال في 17 آذار/ مارس 1937)، ووضع ألغام موقوتة كهربائياً في الأسواق المزدحمة، والتي استخدمها الصهاينة لأول مرة ضد الفلسطينيين في حيفا في 6 تموز/ يوليو 1938. بعد نجاحهم في قمع الثورة الفلسطينية، اضطر البريطانيون للحد من دعمهم المطلق للمشروع الصهيوني، فانقلبت الهجمات الصهيونية ضدهم.

وقد تضمن الرد الصهيوني تفجير سفينة في حيفا في تشرين الثاني/ نوفمبر 1940 وقتل 242 لاجئاً يهودياً وعدد من أفراد الشرطة البريطانية، واغتيال مسؤولين في الحكومة البريطانية، وأخذ مواطنين بريطانيين رهائن، وتفجير مكاتب حكومية، وقتل موظفين ومدنيين، وتفجير السفارة البريطانية في روما (1946)، وتفجير سيارات مفخخة متوقفة بجوار المباني الحكومية، وقامت بجلد وقتل جنود بريطانيين رهائن، وأرسلت رسائل مفخخة وطرود مفخخة إلى مسؤولين بريطانيين في لندن، وغيرها من العمليات العنفية.

كان مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل المستقبلي، العقل المدبر لعدد من هذه الهجمات. ولم يكن بيغن مقتنعاً بأن عمليات مجموعته وعمليات المستعمرين الصهاينة الآخرين تشكل "إرهاباً". فبعد قيام جماعته بارتكاب مجزرة ذبحوا فيها مئات الفلسطينيين في قرية دير ياسين في نيسان/ أبريل 1948، أصبح اسمه مرادفاً للإرهاب. وقد وصف ألبرت أينشتاين وحنة أرندت، من بين آخرين، جماعة بيغن بأنها ليست "منظمة إرهابية يمينية شوفينية" فحسب، بل أيضاً بأنها "قريبة جداً من.. الأحزاب النازية والفاشية".

وفي سيرته الذاتية الصادرة عام 1951، ميّز بيغن مجموعته عن الإرهاب. وقد كان بيغن ذكياً بما يكفي ليعي أن "الإرهاب" ليس مصطلحاً موضوعياً متفقاً عليه من قبل جميع الأطراف، ولكنه بالأحرى استراتيجية بلاغية يستخدمها أعداء غير متكافئين لأغراض سياسية: لقد جاءت كلمة "إرهاب" لتعريف عمليات الثوار أو عمليات مناهضي الثورات، أو عمليات المناضلين من أجل الحرية أو عمليات قامعيهم. كل هذا يتوقف على الجهة التي تستخدم المصطلح. يتحدث بيغن في هذا السياق عن الإرهاب الصهيوني ضد البريطانيين وليس ضد الفلسطينيين.
العنف الصهيوني ضد الفلسطينيين فقد تم تبويبه تحت عنوان الحضارة اليهودية الأوروبية التي تقاتل الهمجية البدائية الفلسطينية الأصلية

أما العنف الصهيوني ضد الفلسطينيين فقد تم تبويبه تحت عنوان الحضارة اليهودية الأوروبية التي تقاتل الهمجية البدائية الفلسطينية الأصلية. لقد كان ديفيد بن غوريون واضحاً في هذه المسألة عندما أصر على "أننا لسنا عرباً، والآخرون يقيموننا بمعيار مختلف.. أدوات حربنا مختلفة عن أدوات العرب". لكن في المقابل فهم بن غوريون جيداً طبيعة المقاومة الفلسطينية للاستعمار الاستيطاني اليهودي:

"إذا كنت زعيما عربيا، فلن أقبل بأي تفاهم مع إسرائيل. هذا طبيعي. لقد أخذنا بلادهم. بالتأكيد، لقد وعدنا الله بها، لكن لماذا يكترثون لذلك؟ فإلهنا ليس إلههم. لقد جئنا من إسرائيل، هذا صحيح، لكن ذلك كان قبل ألفي عام، وماذا يعني ذلك بالنسبة إليهم؟ وقد كانت هنالك معاداة للسامية، النازيون، وهتلر، ومعتقل أوشفيتز، لكن هل كانوا هم المسؤولين عن ذلك؟ إنهم يرون شيئاً واحداً فقط: لقد جئنا وسرقنا بلادهم. لماذا ينبغي عليهم أن يقبلوا ذلك؟".

كان فلاديمير جابوتنسكي، مؤسس الحركة الصهيونية التصحيحية التي انتمى إليها بيغن، يشارك بن غوريون في فهمه لطبيعة المقاومة الفلسطينية. فقد أصر على أن "أي شعب أصلي - كلهم متشابهون سواء كانوا متحضرين أو متوحشين - ينظرون إلى بلدهم على أنه وطنهم القومي، وسيكونون دائماً أصحاب سيادة كاملة عليه. لن يسمحوا طواعية، ليس فقط بسيد جديد، ولكن حتى بشريك جديد. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى العرب".
 
لم تمنع هذه التقييمات الرصينة بن غوريون ودولة إسرائيل من المضي قدماً في التدمير الواعي والمخطط للمجتمع الفلسطيني في عام 1948، وارتكاب أصناف من العنف الذي كانت إسرائيل ستصنفه على أنه "إرهاب" لو ارتكبه الفلسطينيون. منذ ذلك الحين، عرّفت الدعاية الإسرائيلية الرسمية التهجير التعسفي للشعب الفلسطيني وسرقة بلادهم وأراضيهم على أنه عمل أخلاقي له ما يبرره من أجل تخليص "الشعب اليهودي".
كما يفهم الإسرائيليون والأمريكيون جيداً، فإن الخطاب المستمر حول الإرهاب لا يتعلق بضحايا "الإرهاب" بل يتعلق بـ"الجناة". حقيقة أن جيوش الدول تستهدف بشكل أكثر انتظاماً نفس الضحايا الذين يستهدفهم "الإرهابيون" ومع ذلك لا يشار إليها بأنها "إرهابية"؛ توضح أنه ليس فعل "الإرهاب" هو الذي يعرّف الفاعل بأنه "إرهابي" بل بالأحرى العكس

وفي الواقع، لم يكتف الصهاينة بكونهم أول من أدخل السيارات المفخخة وأول من قام بتفجيرات بالأسواق والمقاهي في الشرق الأوسط في سبيل "تخليص اليهود"، بل كانت إسرائيل أيضاً أول من قام بعمليات اختطاف الطائرات في وقت مبكر، منذ عام 1954، وإجبارها على الهبوط في مطاراتها، وإخضاع الركاب للتفتيش والاستجواب والحبس. علاوة على ذلك، لا تزال إسرائيل هي الطرف الوحيد في منطقة الشرق الأوسط الذي أسقط طائرة ركاب مدنية، كما فعلت عندما أسقطت طائرة ركاب ليبية في عام 1973، مما أسفر عن مقتل 106 ركاب على متنها. وفي أوائل الثمانينيات تخصصت في زرع السيارات المفخخة في لبنان.

لكن كما يفهم الإسرائيليون والأمريكيون جيداً، فإن الخطاب المستمر حول الإرهاب لا يتعلق بضحايا "الإرهاب" بل يتعلق بـ"الجناة". حقيقة أن جيوش الدول تستهدف بشكل أكثر انتظاماً نفس الضحايا الذين يستهدفهم "الإرهابيون" ومع ذلك لا يشار إليها بأنها "إرهابية"؛ توضح أنه ليس فعل "الإرهاب" هو الذي يعرّف الفاعل بأنه "إرهابي" بل بالأحرى العكس: إن الهوية الممنوحة لمن يقوم بهذه الأفعال على أنه "إرهابي" هي التي تحدد أفعاله على أنها "إرهابية" بطبيعتها.

كان العنف الهائل الذي نشرته دولة إسرائيل منذ عام 1948 بمثابة استراتيجية واعية لقمع مجمل مقاومة الفلسطينيين لسرقة بلدهم (والتي اعترف بن غوريون صراحة بأنها ليست سوى سرقة)، ورافقتها دعاية رسمية مفادها أن الإسرائيليين كانوا وما زالوا يدافعون عن بلادهم وعن مستعمريها اليهود ضد "الإرهاب". اكتسبت إسرائيل القوة المطلقة كدولة منذ عام 1948 لتصنيف الفلسطينيين الأصليين الذين يقاومونها على أنهم "إرهابيون"، وهو ما عزز هذه الادعاءات بشكل أكبر.
إذا كان منح الدول الاستعمارية والإمبريالية لهوية "إرهابي" يسعى إلى التبرير الأخلاقي للعنف الإمبريالي والاستعماري من أجل التمييز بين عنف الدولة "المشروع" والمقاومة ضد الإمبريالية التي تعتبر "إرهاباً"، فقد فشل ذلك في إقناع ضحاياها

إذا كان منح الدول الاستعمارية والإمبريالية لهوية "إرهابي" يسعى إلى التبرير الأخلاقي للعنف الإمبريالي والاستعماري من أجل التمييز بين عنف الدولة "المشروع" والمقاومة ضد الإمبريالية التي تعتبر "إرهاباً"، فقد فشل ذلك في إقناع ضحاياها؛ كما فشلت جهود منظمات إمبريالية، كمنظمة "مرصد حقوق الإنسان" (أو "هيومن رايتس ووتش" التي لسبب لا أفهمه لا تتم ترجمة اسمها إلى العربية في الإعلام العربي)، التي تصر على مساواة العنف الاستعماري بالمقاومة ضد الاستعمار، لا سيما في حالة الفلسطينيين وإسرائيل، كما فعلت في تقريرها الأخير.

من الواضح أن الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الأوروبية الإمبريالية الأخرى تدرك جيداً أن مقاومة الفلسطينيين والجزائريين والفيتناميين والعراقيين والأفغان واليمنيين والصوماليين، وشعوب أخرى في جميع أنحاء العالم، ضد الغزوات والقصف الاستعماري والإمبريالي هي مقاومة مشروعة وأخلاقية تقوم في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب الإمبريالي والاستعماري، ولهذا السبب على القوى الاستعمارية والإمبريالية شن حملات دعائية سياسية وافتراءات، واستخدام مصطلح "الإرهاب" لتصوير هذه المقاومة على أنها غير أخلاقية وغير شرعية على الدوام. 

أما بالنسبة إلى تسمية الغزوات الإمبريالية الأخيرة بـ"الحرب على الإرهاب"، فيجب أن يُنظر إليها في هذا السياق التاريخي، حيث أنها ليست أكثر من أحدث تبرير للنهب الاستعماري والإمبريالي الذي ارتكبته أوروبا ومستعمراتها الاستيطانية البيضاء حول العالم منذ القرن السادس عشر.