تحل
الذكرى العشرين لأحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، في أجواء عالمية غير مسبوقة تتراوح
بين عودة حركة طالبان إلى حكم أفغانستان، وتفكك الائتلاف الاستراتيجي الغربي،
وتداعيات الإخفاق العسكري الأمريكي في تحقيق أهداف محددة استراتيجيا وسياسيا ضمن
مشروع القرن العسكري الأمريكي الذي انهار بشكل سريع في العراق، وانكسر رغم طول مدة
الحرب في أفغانستان التي كانت عصيّة على المحاولات الأمريكية لبناء دولة مدنية
ديمقراطية.
من
بين الأسباب التي أدت إلى عدم تماسك الاستراتيجية العسكرية الأمريكية، التكلفة
المالية الثقيلة التي تكبدها الاقتصاد الأمريكي جراء استمرار الحرب في العراق
(2003-2010) وفي أفغانستان (2001-2021)، إلى جانب مضاعفات الأزمة المالية العالمية
لسنة 2008، مما دفع إلى التفكير - شيئا ما - في استبدال القوة العسكرية بالقوة
الناعمة لأنها أقل استنزافا للقدرات العسكرية والمادية وتضع الولايات المتحدة
الأمريكية في منأى عن مواقع الأزمات.
من المستفيد؟
لكن
تجب الإشارة إلى أن التدخل الأمريكي المباشر لم يساعد على تمكين الأنظمة الجديدة
المتعاقبة - سواء أكان في العراق أو في أفغانستان - من بناء دولة القانون والمؤسسات،
وإنما وفر تغطية كبيرة لدول الجوار (إيران وتركيا وباكستان) للتدخل في الشأن
الداخلي العراقي أو الأفغاني، فمثلا إيران استفادت كثيرا من إزاحة النظامين
السنيين لصدام حسين غربا ولطالبان شرقا، واستطاعت من خلال اعتماد سياسة طائفية
التوغل في العراق وإنهاء مرحلة العداء مع حركة طالبان. كذلك، جسد العجز الواضح على
مستوى معالجة الإشكاليات المحلية (من غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية
ومخاطر انعدام الاستقرار والأمن) قاسما مشتركا بين الحالتين العراقية والأفغانية،
إضافة إلى الإنزال الهائل من القوات العسكرية الأمريكية والعتاد الحربي المتطور في
الميدان، الذي فشل في الحد من جيوب المقاومة للغزو الأمريكي والقضاء على الحركات
الإسلامية وخاصة المتشددة منها ومنعها من التمدد في بلدان "الربيع العربي".
التدخل الأمريكي المباشر لم يساعد على تمكين الأنظمة الجديدة المتعاقبة - سواء أكان في العراق أو في أفغانستان - من بناء دولة القانون والمؤسسات، وإنما وفر تغطية كبيرة لدول الجوار (إيران وتركيا وباكستان) للتدخل في الشأن الداخلي العراقي أو الأفغاني
استنادا
إلى ما سبق، مجموعة من الأسئلة تفرض نفسها وقد تكون قابلة للتفكير والتحليل، ومن
بينها:
- لماذا بالتحديد هذا التوقيت وبهذه السهولة تدخل طالبان كابول؟ ولماذا سقطت كابول بسرعة قياسية بالرغم من الحضور العسكري الكبير للقوى العالمية فيها؟ هل الفوضى العارمة التي اجتاحت أفغانستان مؤشر على فشل السياسة الأمريكية المعتمدة طيلة 20 سنة، ويراد بها خلط كل الأوراق قبل إعادة ترتيبها وفق مصالح القوى المتحكمة في النظام الدولي؟
- هل لأن هناك استراتيجية جديدة يتم رسمها للمنطقة التي تدخل ضمن قوس الأزمات، والتي تمتد من أفغانستان إلى شمال إفريقيا، وتتطلب الإسراع بإعادة الفوضى وإرباك الدول الإقليمية (باكستان – إيران- روسيا- الصين) المجاورة أو الأقرب إلى المحيط الأفغاني المتقلب؟
- ألم تكف عشرون سنة لتجهيز جيش أفغاني يستطيع الصمود في وجه طالبان، علما أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت حاضرة بكل ثقلها العسكري والسياسي في أفغانستان وتتحكم بشكل كبير في مسارات الشأن الداخلي الأفغاني؟
تقريبا،
هي نفس الأسئلة التي ربما تم طرحها سنة 2001 حين أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية
الحرب على حركة طالبان بحجة إيواء تنظيم القاعدة، تعود اليوم وبقوة على مسرح
الأحداث التي يعتبرها البعض مفاجئة والبعض الآخر مهيأة مسبقا للشروع في مخططات
استراتيجية جديدة، أو لنقل إعادة خلط الأوراق وإشاعة الفوضى، ثم بعدها البدء في
تنفيذ نفس السيناريو باختيار اللاعبين والحكام الذين بيدهم الحل والعقد باسم حقوق
الإنسان والديمقراطية.
نفس الأسئلة التي ربما تم طرحها سنة 2001 حين أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على حركة طالبان بحجة إيواء تنظيم القاعدة، تعود اليوم وبقوة على مسرح الأحداث التي يعتبرها البعض مفاجئة والبعض الآخر مهيأة مسبقا للشروع في مخططات استراتيجية جديدة، أو لنقل إعادة خلط الأوراق وإشاعة الفوضى
في لحظة تفاجأ العالم - وحتى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية - باختفاء مؤسسات الدولة أمام كل المحاولات السطحية لإقامة نظام ديمقراطي على شاكلة الأنظمة الغربية، وبالانهيار السريع للجيش الأفغاني أمام مقاتلي طالبان
أي استراتيجية أمريكية في أفغانستان؟
السؤال
الذي يُطرح هنا: لماذا لم تنتظر الولايات المتحدة نهاية المفاوضات والتوقيع على
اتفاقيات بين الجانبين؛ تمهد لبناء مصالحة أفغانية- أفغانية تتعهد فيها كل الأطراف
بتغليب المصلحة العليا لأفغانستان بدل المصالح الضيقة للأطراف المتنازعة؟ هل كان
صعبا على الولايات المتحدة والتحالف الدولي - بدل الهرولة المفاجئة للانسحاب من
أفغانستان - التمهل بعض الوقت تجنبا للفوضى وعدم الاستقرار وغياب الدولة، مع العلم
أن الولايات المتحدة ظلت طيلة عشرين سنة تتدخل وتغير في المشهد السياسي الأفغاني
دون الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الأفغانية؛ كمقومات لبناء دولة الحق والقانون
تتوافق عليها كل الأطراف الأفغانية وليس فقط أقلية مدعومة بقوة السلاح والمال
الأمريكي؟
لم
تستطع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الاستمرار في محاولات فرض سياسة الأمر
الواقع ودعم الموالين لها وللنمط الغربي للوصول إلى السلطة في أفغانستان، وإن كان
بواسطة تنظيم انتخابات كما كان الأمر مع انتخاب حامد كرزاي كأول رئيس أفغاني تحت
حماية أمريكية مشددة. كذلك الأمر بالنسبة للرئيس أشرف غني الذي لم يصمد لحظة، بل
قرر الرحيل خارج البلاد حين علم بوصول مقاتلي طالبان إلى كابول.
لقد
اختزلت صور الرحيل عن كابول واقعا أفغانيا ساهم في صنعه وفي تحطيمه القوي والضعيف:
أمريكا بعظمتها تسابق الزمن للرحيل وبرفقتها رحل المتعاونون الأفغان. الكل يفر من
كابول، وذكريات فترة حكم طالبان (1996-2001) داهمت بقوة أذهان الناس نظرا لقسوتها
وتشدد مواقفها إزاء كل ما يتعلق بالحقوق الإنسانية، ولا سيما حقوق المرأة. ومن
جانب آخر، لم يكن هناك بديل قادر على شغر الفراغ السياسي، نظرا لضعف أو لغياب القوى
الحية كفاعل مؤثر داخل الساحة الأفغانية، والتي من المفروض أنها تعمل على خلق وعي
مجتمعي، وعلى إشراك كل المكونات الأفغانية في بناء دولة القانون والمؤسسات من خلال
تأسيس ثقافة سياسية جديدة تضمن الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة للأفغان، وتمنع
التشتت وتفكك الدولة.
اختزلت صور الرحيل عن كابول واقعا أفغانيا ساهم في صنعه وفي تحطيمه القوي والضعيف: أمريكا بعظمتها تسابق الزمن للرحيل وبرفقتها رحل المتعاونون الأفغان
اتفاق داخلي أم تنافر؟
ومن
العوامل التي ساعدت على التشتت والتفكك والتنافر بين المكونات المجتمعية
الأفغانية، نسوق أبرزها كالتالي:
- التنوع العرقي
والمذهبي واللغوي الذي تتميز به أفغانستان، بحيث لا يمكن فهم المشكل الأفغاني إلا بفك رموز التركيبة
الاجتماعية والعرقية لأفغانستان الممتزجة فيما بينها والمعقدة. وتتيح الأهمية
الديمغرافية حسب المناطق القبلية؛ للفصائل الأفغانية التي تنتمي إليها أن تستمد
منها قوتها وشرعيتها للوصول إلى السلطة.
- تنحدر حركة طالبان والحزب الإسلامي لقلب الدين حكمتيار من قبائل الباشتون (40 في المائة من السكان) الممتدة ما بين شرق وجنوب أفغانستان (هلمند- قندهار) وشمال وغرب باكستان (إقليم بلوشستان)، وتتحدث لغة خاصة وهي الباشتو (مزيج بين اللغات الهندية والفارسية). وقد شكل الباشتون قاعدة أساسية لمد المجاهدين خلال حقبة الغزو السوفييتي بالمقاتلين وبالسلاح.
- هناك أيضا الطاجيك (27 في المائة من السكان) من الفرس السنة، ولغتهم الداري ويتمركزون في غرب البلاد، وينضوون سياسيا في إطار الجماعة الإسلامية للرئيس السابق برهان الدين رباني، وينتمي إليهم أيضا أحمد شاه مسعود الذي حارب بقوة الغزاة السوفييت.
- أما الهزارة، فيوجدون في وسط البلاد ويتكونون من الشيعة (15% من السكان) ولغتهم هي الداري مثل الطاجيك، ويحظون بمساندة كبيرة من إيران.
- هناك أيضا الأوزبك والتركمان والقرغيز الذين يستقرون في شمال البلاد ويتكلمون اللغات التركية. ونذكر من زعماء الأوزبك الجنرال رشيد دستم، الحليف السابق للحكم الشيوعي والذي كان يتمتع بتأييد كبير من روسيا ومن أوزبكستان.
غياب مشروع
سياسي ومجتمعي زاد من حدة التباعد بين الفصائل الأفغانية، وأدى إلى
تفاقم الأزمة واستمرار القتال داخليا، خاصة منذ الإطاحة بنظام نجيب الله الموالي
لموسكو في نيسان/ أبريل 1992، ومكن المجاهدين من الاستيلاء على العاصمة كابول.
وبالرغم من توصل أطراف النزاع إلى اتفاق سلام وقع عليه في إسلام أباد بتاريخ 7 آذار/
مارس 1993، يمنح للرئيس رباني صلاحية الاستمرار في الحكم إلى حدود منتصف أيا/ مايو
1995، مع تعيين قلب الدين حكمتيار في منصب رئيس الوزراء لحكومة ائتلافية، فإن هذه
الأخيرة لم تستطع الاستقرار في كابول، وذلك نظرا لقيام الآلاف من طلبة المدارس
الدينية "طالبان" بدعم من باكستان - في كانون الثاني/ يناير 1995 -
بتنظيم مسيرة من الجنوب وبالتحديد من بلاد الباشتون نحو كابول.
غياب مشروع سياسي ومجتمعي زاد من حدة التباعد بين الفصائل الأفغانية، وأدى إلى تفاقم الأزمة واستمرار القتال داخليا، خاصة منذ الإطاحة بنظام نجيب الله الموالي لموسكو في نيسان/ أبريل 1992
ماذا حقق التدخل الخارجي؟
التدخل الأجنبي
في الشأن الداخلي الأفغاني، تسبب في الكثير من المعاناة للأفغان،
وذلك نظرا للموقع الاستراتيجي الذي تحظى به أفغانستان، بالرغم من انغلاقها بين قوى
ودول إقليمية تتنافس فيما بينها أو مع قوى عالمية.
في مراحل معينة
شكل التدخل العسكري أداة تطويع وقمع وتفريق لمكونات الشعب الأفغاني، كما حصل إبان
الغزو السوفييتي سنة 1979 لدعم النظام الشيوعي بقيادة حفيظ الله أمين، الشيء الذي
دفع بالفصائل الأخرى المستبعدة إلى توحيد جهودها وتوجيه نيران المقاومة إلى المحتل
السوفييتي حتى تم إخراجه من أفغانستان.
كذلك كان الأمر
مع التدخل الأمريكي سنة 2001 الذي حرص على إبعاد حركة طالبان من الحكم وتمكين
الأفغان الموالين للغرب من الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات المباشرة. لكن لم
يستتب الأمر وعادت طالبان أكثر قوة وأكثر حنكة في ما يتعلق بالسياسة والدبلوماسية،
وغيّرت الكثير من أساليبها السابقة.
هناك صراع دولي خفي للفوز بصفقات إعمار أفغانستان واستغلال الموارد الطبيعية. ولعل الصين هي أكثر الدول التي تأمل في عودة الاستقرار السياسي إلى أفغانستان، والذي من شأنه العمل على تفعيل طريق الحرير عبر أفغانستان. كذلك تسعى روسيا من وراء الاعتراف بشرعية نظام طالبان لاستعادة النفوذ والدور السابق للاتحاد السوفييتي