ليس المهم في أن تكون "الرواية الصهيونية" عن تعقب
الأسرى والإمساك بهم، صحيحة أو مفبركة، إنما المهم أنها ليست روايتنا. وكي تكون لنا
رواية، ليس بالضرورة أن نعرف كامل تفاصيل عملية الفرار من سجن الجلبوع، ثم الاختفاء
على مدار خمس ليال وأربعة أيام. بل يكفينا وضع العملية في سياقها البطولي من تاريخ
الصراع مع هذه المنظومة الأمنيّة- الاستعماريّة، والذي خاضه الأسرى في سجون الدولة
العبرية، على مدار عقود من الزمن.
كما ليس الحذر من الرواية الصهيونية في خطأ معلوماتها وفبركتها،
إنما عند صِحة هذه المعلومات ودقّتها، يجب الحذر، فما قاله الصهاينة في إعلامهم من
معلومات وتقديرات، كثير منه قد يكون صحيحا. كما لم يتردّد عناصر أمنهم أو خبراؤهم في
الاعتراف بسوء تقديرٍ متعلّق بتفصيل هنا أو هناك، عن عملية الفرار من السجن، وتعقُّب
الأسرى الفارين منه. ومع ذلك، إنّ شكل بناء الرواية الصهيونية عن الحدث، هو ما يستدعي
منّا الحذر منه، لناحية اشتغال الرواية على إعادة إنتاج هيبة الدولة وأسطورة الأمن
فيها، وتحشيد المجتمع الإسرائيليّ وتعبئته، ثم أخيرا استهداف الرواية لنفسيّة الفلسطينيّ،
ومحاولة خنق تفكيره على إمكانية فعل التمرُّد.
إنّ ما يُقال عنه بـ"دق الأسافين" بين أبناء المجتمعات
الفلسطينية، ليس هو الأساس في رواية الإسرائيليين. فما جاء في رواية إلقاء القبض على
الأسيرين يعقوب قادري ومحمود عارضة في الناصرة، بأن عائلة عربية قد "وشت"
بهما، ومكنت الإسرائيليين من القبض عليهما، قد يكون صحيحا، لكن الرواية ذاتها، قد تضمنت
تأكيدا أيضا، على أن عربا من فلسطينيي الداخل، قد قدموا مساعدة للأسرى الفارين خلال
أيام فرارهم. ولو افترضنا بأن رواية الوشاية بالأسرى غير صحيحة ومفبركة بغرض ضرب وحدة
شعبنا والتفافه الشعبي حول قضية الأسرى، فإنه وبلا شك، إن مخبرين عربا وجواسيسَ قد
جرى تفعيل نشاطهم خلال الأيام الماضية وما زال، وهذا غير المجندين الرسميين العرب في
وحدات الأمن وبالأخص وحدة "كلاب الأثَر".
ما نريد قوله هنا، إن الفئة المتعاونة مع الاحتلال وأجهزة
أمنه، موجودة في الداخل الفلسطيني، وكذلك في أراضي الضفة الغربية، سواء كان التعاون
بصفة رسمية مثل المجندين العرب في الداخل، أو على شكل التنسيق الأمني في مناطق السلطة
الفلسطينية، أو ذلك التعاون الذي يعمل في الظلّ على شكل مُخبرين ووشاة يتواجدون حتى
في غزة.
اختفاء لم يكن بمستوى سقف الفرار
كان القبض على أول أسيرين -يعقوب قادري ومحمود عارضة- مساء
يوم الجمعة في الناصرة، ثم الإمساك بالأسيرين زبيدي وعارضة فجر يوم السبت في قرية أم
الغنم، خبر مربِكا لأبناء شعبنا إلى درجة الشعور بالهزيمة والإحباط، وهناك من ذهب به
إحباطه إلى حدّ الاكتئاب والتشكيك في رواية الهروب من أساسها!
هذا الشعور بالإحباط، متّصل بأسطوريّة عملية الفرار من السجن
وبطوليتها، خصوصا وأنه فرارٌ من أعتى سجون إسرائيل الأمنية، وأشدّها تحصينا وإحكاما.
وبالتالي، كان سقف توقعات الناس بقدرة هؤلاء الأسرى الأبطال
على التواري والاختفاء، بنفس مستوى سقف قدرتهم على التخطيط والفرار من السجن نفسه،
فكان إلقاء القبض عليهم بهذه "السهولة" وهذه "الوضعية"؛ كما لو
أنها "هزيمة " لعملية الفرار كلّها. وهذا ما يمكننا أن نسميه في كل حكايات
الإفلات والفرار من السجون، بـ" عَظمة البدايات وأزمة النهايات". ولكن ما
لا ندركه نحن المتحمسون تارة، والمحبَطون تارة أخرى من خلف أزرار أجهزتنا، أن التخطيط
والتدبير للإفلات من السجن شيء، والاختفاء والتواري بعد الإفلات شيء آخر مختلف تماما،
محكوم بمسألتين، هما: الجغرافيا والحاضنة الاجتماعية.
أزمة تطويع الجغرافيا
في فلسطين ما قبل النكبة، كانت كل قصص المطارَدين والفرار
من قبضة سلطات الانتداب البريطاني، قد كُتب لجزء كبير منها النجاح. إذ لم تكن الجغرافيا
بهذا الضيق الذي صارت عليه بعد النكبة وقيام الدولة العبرية، إذ اعتاد المطلوبون من
فدائيين وسياسيين في حينه، على الفرار إلى سورية ولبنان.
بعد النكبة، ضاقت الجغرافيا على الفلسطينيين، ومع ذلك، ظلّت
جغرافيا فلسطين عصيّة على أمن الدولة العبرية إلى حدٍّ كبير، وهذا ما تشير إليه حكاية
مطاردة علي النمر، ابن عشائر "الصبيح" المهجّرة في منطقة الناصرة، والتي
استمرّت أكثر من عشرين عاما، طوال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إذ
اعتاد النمر، على التسلُّل من سورية إلى فلسطين والتواري فيها، والتواصل مع فدائيين
في الجليل، حتّى استشهاده بعد اغتياله في مطلع السبعينيات بالقرب من قرية عرابة البطوف،
وغيرها كثير من حكايا المُطارَدين في الضفة الغربية والقطاع، والتي كانت تستمرّ لسنوات
على إثر الانتفاضة الأولى.
إلا إنه وفي العقود الثلاثة الأخيرة، أصبحت جغرافيا فلسطين
أكثر تطويعا لصالح إسرائيل وأجهزة أمنها، وبخاصّة مع تمدُّد الاستيطان الإسرائيلي على
كامل التراب الفلسطيني، وتحديدا تغوّله في مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة، وهذا
التمدُّد الاستيطاني هو تمدد أمنيّ بالضرورة، فضلا عن التفوق التقنيّ الإسرائيلي في
أجهزة التعقُّب والترصد لديها في العقدين الأخيرين، ممّا منحها قدرةً على تطويع جغرافيا
البلاد، وسرعةً في تعقُّب أثر الفارّين والمطارَدين، وكشف مواقعهم.
بلا شك، إن عامل ضيق الجغرافيا، كان أحد العوامل التي عملت
لصالح أجهزة أمن إسرائيل، ضد الأسرى الستة، خصوصا بعد القبض على أربعة منهم، فالوجهة
الجغرافية التي اتخذها الأسرى الأربعة، والتي قد تكون قد اتُّخِذَت من قِبل الستّة،
من سجن جلبوع نحو قرى وبلدات فلسطينيي الداخل الواقعة على مسافة بضع كيلومترات شمالي
السجن، قد تُفسّر أزمة سؤال الجغرافيا التي واجهها الأسرى الفارّون. وذلك بعد أن غدت
فلسطين وطنا مزروعا بالكاميرات، وبعد أن باتت جبالها وأوديتها مغروسة بثكنات الجيش،
ونقاط التفتيش، وحركة دوريات وحدات الحراسة والأمن الدائمة.
غير أن الجغرافيا، على إشكاليتها في فلسطين، لا يمكن أن تصير
أزمة المُطارَدين الحقيقية، إلا إذا افتقد المُطارد إلى حاضنته الاجتماعية.
احتضان بلا حواضن
لم يسبق أن شهدت عملية إفلات لأسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية،
التفافا شعبيا فلسطينيا- عربيا، وزخما جماهيريا- إعلاميا، مثلما شهدت عملية إفلات وفرار
أسرى سجن الجلبوع الستة، في احتضان داعم للعملية، جاء إثر هبة الكرامة الأخيرة. فالعملية
ببعدها البطولي- الأسطوري، تكمن في القدرة على تحدي منظومة إسرائيل الأمنية، والإفلات
من سجنٍ اعتبره الصهاينة "خزنتهم المُقفلة"، عبر شقّ الأرض من تحته نحو فَتحة
نفق الأُفق والانعتاق، ممّا أعطى العملية بعدا رمزيا لتحرر وحرية الشعب الفلسطينيّ
كله.
في المقابل، إنّ تخبُّط الأسرى، بعد إفلاتهم، وبخاصة الأربعة
الذين تم الإمساك بهم، والوضعية التي أرادت إسرائيل أن يكونوا عليها أثناء اعتقالهم،
تُحيلنا إلى أزمة غياب الحاضنة الاجتماعية. اتّخذ الأسرى وجهة فرارهم شمالا، نحو قرى
مرج ابن عامر العربية التي لا يعرفونها، ولا تعرفهم، بينما قد يسأل بعضنا: لماذا لم
يتوجّه الأسرى الفارّون من السجن جنوبا، حيث مسقط رؤوسهم في محافظة جنين التي لا تبعُد
سوى مسافة ساعة واحدة مشيا على الأقدام؟ قد يعتبر البعض ذلك تمويها أراده الأسرى لتمويه
قوات أمن إسرائيل في الذهاب شمالا نحو قرى فلسطينيي الداخل، وهذا ممكن. غير أن الثابت
هو أن مدن وقرى مناطق السلطة الفلسطينية لم تعد تُشكّل حواضن اجتماعية حامية للمقاومين
والمطارَدين كما كانت عليه حتى الانتفاضة الثانية. فالسؤال: ما الذي حلّ في آخر 15
عاما، بمدن وقرى جبال نابلس وجنين، حتى يتفاداها أبناؤها الفارّون من سجون إسرائيل؟
الجواب ببساطة؛ التنسيق الأمنيّ، الذي عمل على تقليم أظافر وخلع أسنان المجتمع الفلسطيني
في الضفة الغربية، ووأد أي محاولة للفعل المقاوِم ضدّ إسرائيل. كما لا يمكن لقرى وبلدات
الداخل الفلسطيني أن تكون حواضن اجتماعية للمقاومين والمُطارَدين، وهذا ما ثبت في العملية
الأخيرة؛ هو احتضان بلا حواضن اجتماعيّة.
أخيرا... عن الربح في الخسارة
قطعت قوات أمن إسرائيل الطريق، على فرار أبطال أسرى عملية
الجلبوع الستة، وأمسكت بأربعة منهم، وما زال الأسيران أيهم الكممجي، ومناضل انفيعات،
طليقَيْن، نسأل لهما السلامة والأمان.
ما حقّقته هذه العملية أمران، الأوّل: كسر منظومة أمن دولة
إسرائيل وأسطورتها، وثبوت إمكانية القدرة الدائمة على فعل التمرُّد. والثاني: سياسيّ،
إذ أعادت عملية الجلبوع، دفع ملف الأسرى والمعتَقلين، إلى الواجهة السياسيّة، بعد أن
جرى تهميشه في السنوات الأخيرة.
تستفرد الرواية الصهيونية في مفاصل أحداث سير عملية سجن الجلبوع
وتفاصيلها، في ظلّ تغييب رواية الأسرى أنفسهم عنّا. لكن هذا التغييب، لا يعني غياب
روايتنا التي يمكننا حكايتها وكتابتها، حتى لو لم يتسنّ لنا الاطلاع على كامل تفاصيل
هذا الإفلات البطوليّ من قبضة السجن والسجّان، منذ أول دقّة ملعقة في تراب سهل فقوعة،
وحتى آخر لحظة من أيام الانعتاق، القائم لبعض الفارين حتى الساعة. وضمن سردية فعل التمرد
والفرار التاريخييْن على سجون وزنازين الغُزاة والمحتلين، في فلسطين منذ مطلع القرن
العشرين. إن عملية سجن الجلبوع، هي دعوة للتخييل، أكثر مما هي فضولٌ لمعرفة التفاصيل،
كي نكتبها.
(عرب48)