حين يقوم المؤلف بكتابة أو سردِ حكايةٍ ما، فإنّ هذه الحكاية تكون إمّا حدثًا واقعيًا حصل على أرض الحقيقة، أو تكون حكايةً من نسج خيال الكاتب، لكن ماذا لو جمع الكاتب أو المؤلف بين الأمرين؟
فينسل خيوط الواقع وينسج منها عباءة من وحي خياله تختفي تحتها حكايات تختلط فيها الحقيقة بالوهم، والواقع بالخيال، واللامعقول بالمعقول، وماذا لو بدا عدي جاسر الحربش في مجموعته القصصية "حكاية الصبي الذي رأى النوم" بأنه أصاب عين الحقيقة، وما يحدثك به ليس هذيان شياطين أفكاره، بل هو الحدث الذي رآه بأم عينيه، وحدثه به من عاشوه في العصور الغابرة، وبأنه يعرف عن تلك الشخصيات التي تمتلئ بها كتب التاريخ والتراجم والسير ما غفلت عنه صفحاتها، وبأنه يعلم ما لا يعلمه غيره؟ ما كنت لأصدقه لو لم أقرأ سطور ما جادت به مخيلته، مخيلة ذاك الكاتب السعودي، حيث استطاع اختطاف انتباه القارئ منذ اللحظة الأولى، وأخذه في رحلة بلغ طولها ثمانية عشر لصّا، أقصد ثمانية عشر نصّا!
بين الحقيقة والخيال
إن القارئ لمجموعة عدي جاسر
القصصية سيلحظ أن معظم الشخصيات الواردة في الحكايات هي شخصيات حقيقية بالفعل، ولم
يكن عدي جاسر ليغير أزمنتها ولا أمكنتها، ولا حتى الشخصيات المحيطة بها، أي أنه لم
يمسس ما لا يُختلف عليه، بل فعل ما هو أكثر ذكاء وجرأة، لقد خلق حدثًا لا يمكن الجزم
في ما إذا كان قد حدث بالفعل أم لا، ويحدثك به كما لو كان شاهدًا عليه، بل ويجعله سببًا
خفيّا لأحداث تاريخية عظيمة، كما فعل في حكاية الجارية ذات الشعر الأسود، جارية الخليفة
المتوكل وأم ولده المعتز بالله، وقد سماها المتوكل قبيحة لشدة جمالها، كما كانت العرب
تسمي الأمة السوداء فضة، والأعمى أبا بصير، حيث أبقى عدي جاسر على كل ما سبق من معلومات
تاريخية موثقة، وغاص فيها حتى وصل إلى حجرة الخليفة وروى ما يمكن أن يكون حصل ما بين
الجارية وسيدها، بل وجعل من الجارية أسطورة عجيبة تفسر تعلق الخليفة وهيمانه بها، حيث
سلبت بشعرها الأسطوري قلب الخليفة، حتى صار
يفضل ابنها المعتز على ابنه البكر المنتصر ولي العهد، فاستغل الأتراك كره المنتصر لأبيه
وخوفه من أن يجعل المعتز ولي عهده، فتآمر قادتهم مع المنتصر لقتل المتوكل، ثم دخلوا
قصر الخلافة وقتلوه بسيوفهم ومكنوا المنتصر من الحكم.
أبطال الحكايات
تزخر الحكايا بالعديد من الأبطال
القادمين من الزمن الغابر، يكشف عدي عن جانب خفي فيها، ويجعلك تقف أمامها متأملًا ملامحها،
ومستمعًا لما يدور في داخلها، إنه الراوي العارف بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء، وقد قرر
أن يجود علينا بما لا نعرفه، ويفتح عيوننا على ما كنا قد غفلنا عنه، فلو شاهدتموه وهو
يجول بنا في أروقة بغداد حاضرة الخلافة، حيث التقى بابن سينا، مجرّدا إياه من هالته
المهيبة باعتباره الفيلسوف الكبير وشيخ الأطباء في عصره، ومُلبسا إياه ثوب الإنسان
الرقيق، الذي يخفق قلبه مع قلوب مرضاه، ويحفظ حكاياتهم ويداري مصابهم، وبعمق أكثر،
لقد أحضر عدي الصبي وأمه المريضة من الحجاز ووضعهما في طريق الشيخ، ليكشف عن الصراع
الذي يدور في داخل ابن سينا، بين رباطة الجأش التي تمليها عليه مهنته ويحثه عليها أساتذته،
وبين الاستسلام لشعوره المعذّب لحال مرضاه، وألم فقد المريض بين يديه، وقد كشف الصغير،
الذي ماتت أمه بالسُل بين يدي بطلنا، عن قلب ابن سينا العامر بالإيمان ومحبة الخير
للناس.
في عالم جاسر الساحر العجيب
قد يكون البطل طبيبًا أو فلكيا كابن سينا وإبراهيم التنوخي في حكايتي الصبي الذي رأى
النوم وحكاية الاسطرلاب، أو وليّا كعدي بن مسافر في حكاية الملَك طاووس، وربما كان
البطل امرأة كالجارية قبيحة، وحصة التي صارعت شيطانها فقتلت وقُتلت، أو شابًا في الصحراء
البعيدة يرسم فوق الرمل وجه حبيبته وضحى التي تزوجت وبعثرتها ريح القدر، أو حتى مجرد
كرة بولينغ أشفقت على إحدى القارورات ولم تُرد أن تكون سببا في هلاكها، فتحدت قوانين
الفيزياء وغيرت مسارها!
ما الذي يجمع بين الحكايات وأبطالها؟
أعتقد بأنني أجبت عن هذا التساؤل
سابقًا، وبشكل أكثر وضوحًا، فإنني أعتقد بأن ما جمع الطبيب والولي والفلكي والجارية
والصبية وكرة بولينغ وغيرهم، هو الصراع الأفلاطوني بين حصانين عليهما أن يختارا طريقًا
واحدًا ربما لا رجعة منه، الصراع ما بين النفس الأمّارة واللوامة، ذلك البرزخ الحتميّ
الذي لا يمكننا المكوث فيه مدة أطول، ونشتهي الخروج منه ونسعى لذلك وإلا زادت عذاباتنا،
لقد برز هذا الصراع في كل الشخصيات الواردة في الحكايات، جميعها وصلت إلى نهاية طريق
متفرع، وكان عليها الاختيار، فسلِمَت بعضها وهلكت الأخرى، وربما كان في الهلاك نجاة!
اقتباسات
كان عدي جاسر يبدأ حكايته باقتباس
للأدباء العالميين أو حتى بالآيات القرآنية، فيذكر عباراتٍ تشي بمضمون الحكاية وتعكس
لمعانًا خجولًا لدرّها المكنون، وقد دل ذلك على ثقافة لا يستهان بها لدى الكاتب، ليس
لجمال اختياراته وتنوعها بل لمناسبتها أيضا ومطابقتها لجملة الحال وواقع الأحوال، وبالنسبة
للغته فقد كانت سلسة وانسيابية عذبة، أما أسلوبه فقد وجدته شيّقا، يشابه حكايات ألف
ليلة وليلة، وجولة فوق البساط السندبادي الطائر، إلا أن الراوي كان رجلًا بخلاف شهرزاد،
إلا أنه استطاع أن يباريها ويسرد حكايات لا يمكن الإفلات منها قبل النهاية.