كمال الزغيدي، موظف نظافة ببلدية المنستير، فنان عصامي، وموظف بلدي مبدع.
الفضلات تحولت وهو يعالجها إلى منحوتات فنية اتخذت من سحر يديه أشكالا بديعة. لم ينظر إلى النفايات والمواد الصلبة وبقايا الورق كما ينظر إليها من يعتقد أنها لوثة وجب التخلص منها، رآها بعين المبدع فتساءل: لم لا أحولها إلى مجسمات وقطع فنية من الأوراق المهملة وأوراق الشجر، لتسعد البشر؟
لم لا أجمع بقايا الرصاص والورق والبلاستيك والنحاس، لأسعد الكبار والصغار، وأغذي فيهم شحنة من الإحساس؟
كان ذلك منذ ست سنوات خلت، خلال تربصه بمدينة المنستير بالساحل التونسي. الحلم صار حقيقة ومجسماته خرجت للعموم تعلن عن موهبته.
الفيلسوف/ الفنان/ الصوفي
حقق ثلاثة أهداف في وقت واحد: عمل على نظافة المحيط من خلال إعادة تدوير النفايات، وأنجز أعمالا إبداعية أعطته قيمة، وردت الاعتبار لعامل النظافة الذي أعلن عن وجوده كفاعل مهم.
لم يكن عامل نظافة فحسب، هو شاعر يرسم بالكلمات، وله عشرات القصائد، وهذا الجانب غير معلوم إلا لقلة تعرفه، وهو حين يتأمل تظهر بعض "شذراته الفلسفية" التي يخفيها وراء سخرية رفيعة.
بوله العاشق يؤم كمال الزغيدي بعد انقضاء ساعات عمله في التنظيف، ورشة، كمن يستوي في محراب ينسيه تعب اليوم الذي مضى مستعرضا ما غنمه من مواد.
"أنا ذاك الفيلسوف/ الفنان/ الصوفي، والورشة، ذاك المكان الضيق الذي بدأت منه، هو منزلي الذي تحول إلى ورشة بل محرابا للفن، ربما يكون بمثابة الخلوة للصوفي المتعبد المتزهد الذي انقطع عن الفضاء الخارجي بكل أبعاده الزمكانية.
ورشتي أصبحت كما نطلق عليها باللهجة العامية "الخلوية: أي المكان الضيق بجدرانه الأربعة، هو بمثابة المعتكف الذي يتحول فجأة إلى أوسع وأرحب مكان، أعتنق الحلم والحرية".
يستخدم وسائل تعبير بسيطة: "لا أستخدم لغة معقدة لأبهر بها الجمهور، فاللغة المعقدة تسبب الملل وتمنع وصول الرسالة. هدفي إيصال رسالتي بأبسط طريقة ممكنة، رسالتي لا تهم النخبة فحسب، بل عامة الناس الذين غابت عنهم قصص ’الحمامة المطوقة‘ و’الناسك والشيطان‘ ومقتبسات ’كليلة ودمنة‘".
أكبر من مجرد نفايات
المسألة أكبر من مجرد نفايات وعامل نظافة: "نحن بحاجة أكيدة لإعادة تدوير نفاياتنا اللامرئية التي تحيط بنا والمتأصلة فينا، نتوارثها جيلا عن جيل، ونمارسها يوميا فعليا وبكل عفوية، أهمها التميز العنصري والعنف بأشكاله، البدني واللفظي، والبغض والكراهية، والفساد الذي أصبح منتوجا مطابقا للمواصفات المحلية (قابل الاستهلاك والتصدير). نحن بحاجة أكيدة لإعادة تدوير نفاياتنا اللامرئية قبل التفكير في إعادة تدوير النفايات التقليدية.. كانت لدي أكثر من ’فرصة‘ لألتحق بزمرة الفاسدين، ولكن الله أكرمني وألهمني الصبر، رفضت وتحملت، وعانيت سنين البطالة، واكتشفت أن الفاسدين أكثر تعفنا من النفايات، وربما النفايات أطهر منهم، هم لا يصلحون حتى للرسكلة (إعادة التدوير)".
الأطفال من يلهمني
حول طريقة عمله قال كمال: "أورق مغلفات الإسمنت والجرائد هي مساندي الرسمي، لكن لابد لي من مواد أخرى. ورغم أنها لا تمثل سوى عشر تكلفة المجسم أو المنحوتة، فإنها ترهقني ماليا، لأن وضعي الاجتماعي هش، فأنا أستنزف مرتبي في اقتناء بعض المواد الأولية التي لا تتوفر في النفايات، ومع ذلك قررت الصمود والمواجهة، ولن أحول النحت إلى مشروع تجاري، هو مجرد فسحة فنية أتنفس من خلالها، وأتواصل عبرها عاشقا للبيئة. كمية النفايات المنزلية في البلاد التونسية تبلغ 3 ملايين طنا سنويا. لا يقع تدوير سوى 2% منها".
يخيط ويلصق ويصمم ويخطط، لماذا الحيوانات هي مجسماته المفضلة؟
"من خلال ما تعلمته من ورشات الدمى العملاقة أود التعامل مع الأطفال فمن خلالهم أود تثمين دور العامل البلدي وتقريب العمل للأطفال عن طريق الحيوانات فهم يعشقون عالمها الغريب، ويودون الاقتراب منه، صرت صديقهم، وتعلمت من الأطفال صدقهم، وحبهم وإخلاصهم للبيئة، يعطونني شحنة وأنا أرى الفرح يتدفق من لمعان عيونهم التي تبشر بمستقبل أراه".
استفدت من هؤلاء
"كلما أمسكت بالإبرة والخيط أتذكر ثلاثة أشخاص تعلمت منهم الخياطة والتطريز اليدوي أمي التي كانت تحترف الخياطة، وغاسل الموتى سامي جعيد الذي كنت أشاركه في بعض المناسبات في غسل وتكفين سعيد الحظ في العبور إلى الضفة الأخرى، كنت أستغرب من براعة هذا المحترف وحرصه على خياطة الكفن بكل دقة وتفاني والكفن سيلقى بعد إتمامه تحت التراب. أما الثالثة التي تعلمت منها الخياطة فهي طبيبة جراحة قامت بخياطة يدي عندما تعرضت لجرح على مستوى الكف الأيسر وأنا بصدد نحت الخفاف ضمن إحدى الورشات. كانت تحيط الجرح بكل ود وعطف مستعملة كل عبارات اللطف من قبيل "اسم الله عليك"، شفي الجرح واندمل لم يبق منه في ذاكرتي سوى بعض الملامح: حسن معاملة الطبيبة لي وأداؤها المهني والإنساني الرائع".
كمال الزغيدي لا يحبذ الحديث عن تجاهل ولا يريد أن نتحدث عن مظلومية: "ما قمت به كان من وحي موهبتي، لم أنتظر أن يتصل بي فلان أو أي مسؤول، ولكني كنت سأبتهج لو وجدت دعما من هذه الجهة أو تلك، أو اهتماما. أعمالي المنجزة الآن تجاوزت العشرين مجسما متفاوتة الأحجام، وبعضها عملاق مثل مجسم الفيل الذي بلغ ارتفاعه مترين و80 سم".
في معرض الكتاب التونسي: كتب مسموعة ومفاجآت أخرى