يتسارع مسار الانهيار الحامل لانفجار اجتماعى خطير، حذّر منه كثيرون مرارا، فيما تعيش المؤسسة السياسية الحاكمة، فى ظل استفحال الأزمة، حالة من نكران لهذا الواقع ولتداعياته الكارثية على الجميع.
فى ظل هذا الوضع المأساوى نشهد «حرب» المواقف الحادة بين أطراف هذه المؤسسة وتبادل الاتهامات والتصريحات الشعبوية التى تحمل الآخر، الشريك فى السلطة، خصم يوم وحليف فى يوم آخر، مسئولية ما آلت إليه الأوضاع فى ظل حروب التفسيرات الدستورية.
يعيش المواطن اللبنانى أيا كان انتماؤه السياسى أو الدينى أو المذهبى أو المناطقى فى حالة من المهانة اليومية بحثا عن القوت والدواء له ولأسرته فى حاضر قاتم ومستقبل مفقود إذا ما استمرت الأمور على ما هى عليه. حالة النكران هذه عند المؤسسة السياسية الحاكمة تبرز أيضا فى لعبة عض الأصابع، كل يراهن على قبول الآخر، خصم اليوم، لشروطه لوقف الانهيار.
كما يراهن كثيرون من هؤلاء على الخارج، وهى سمة مستقرة فى السياسة اللبنانية: على انتصار «الحليف» أو «الصديق» فى الصراعات الإقليمية الدائرة أو حصول تفاهمات لمصلحة الطرف اللبنانى المعنى تترجم سياسيا فى الصراع الداخلى المحتدم. وللتذكير فإن حروبنا الأهلية المختلفة كان أكثر وقودها ومسبباتها يكمن فى اصطفافاتهم الخارجية، العقائدية والسياسية والمصلحية بحيث صار لبنان ملعبا لتلك الصراعات التى تغذت على الخلافات الداخلية، كما غذت هذه الخلافات.
وفى إطار «حروب» التفسيرات الدستورية حول الصلاحيات بشأن المسئولية فى تشكيل الحكومة وفى تركيبتها نعود إلى «حرب» حول «تفسير اتفاق الطائف» الذى صار جزءا من الدستور اللبنانى عبر التعديلات التى أدخلت عليه: البعض يريد إسقاطه دون الإعلان عن ذلك والعودة إلى ما قبل الطائف، باعتبار أن موازين القوى الحالية، داخليا وخارجيا، صارت تسمح بحصول هذا الأمر.
البعض الآخر يتمسك باجتهادات أو تفسيرات قانونية للتمسك بموقفه الذى يستند حسب هذا الرأى إلى الاتفاق المشار إليه. وللتذكير فإن الاتفاق منذ دخوله حيز التنفيذ كان دوما بحاجة «لرعاية» قامت بها سوريا حتى خروجها من لبنان. مرد ذلك للتذكير أيضا، كان الصراع المحتدم فى إطار نظام فيدرالية المذهبيات السياسية القائم بين المكونات السياسية لهذه الفيدرالية والحاجة إلى «مايسترو» لترتيب وتنظيم واحتواء هذا الصراع.
حقيقة الأمر الذى يجب الأخذ به فى هذا الخصوص أنه لا يمكن العودة إلى ما قبل الطائف كما يدعو البعض جهارا أو إيحاء، ولكن يجب المضى فى تطوير هذا الاتفاق، للذهاب نحو الدولة المدنية بغية التخلص من منطق المحاصصة وسباق الديمغرافيا أو سباق التحالفات الخارجية الذى لا يوفر حلا مستقرا للأزمات والحروب اللبنانية القائمة بأشكال وعناوين مختلفة. منطق يستدعى دوما التدخل الخارجى ولو تحت عناوين أو أشكال مختلفة.
لكن فى ظل الانهيار المتسارع لا يمكن لأحد تحمل «ترف» البحث فى تطوير النظام قبل وقف الانهيار الذى سيطيح إذا ما استمر بكل مكونات الدولة والمجتمع ولا يبقى شىء يتقاتلون عليه باسمنا. وللتذكير فإن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا) تشير إلى ارتفاع معدل الفقر من ٢٨ بالمائة إلى ٥٥ بالمائة بين العامين ٢٠١٩ و٢٠٢٠ مع زيادة نسبة الذين يعيشون فى فقر مدقع من ٨ بالمائة إلى ٢٣ بالمائة خلال ذات الفترة. ومع التذكير أيضا أنه فى النصف الأول من هذا العام فإن هذه النسب فى ظل الانهيار الاقتصادى الحاصل قد شهدت دون شك ازديادا هائلا.
ويعبر تصريح جوزيف بوريل الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبى خلال زيارته إلى لبنان عن هذا الوضع المأساوى بقوله إنها أزمة داخلية (موجها كلامه إلى المؤسسة السياسية) أنتم صنعتموها وأن لا مساعدات للسلطات اللبنانية دون إصلاحات. وهذا كلام صار يردده جميع أصدقاء لبنان. فلم يعد من الممكن التلطى وراء اتهام الخصم فى الداخل أو فى الخارج عن المسئولية بشأن طريق الانهيار السريع الذى نسلكه.
تساءلنا فى نهاية العام الماضى فى مقالة سابقة حول شروط الإنقاذ، ودعونا منذ أشهر ثلاثة فى مقالة أخرى لإنقاذ لبنان قبل فوات الأوان. المطلوب لذلك هدنة بين المتقاتلين تحت عناوين كبيرة؛ وقف الاشتباك والقبول بهدنة من أجل تشكيل حكومة مهمة، لا حكومة محاصصة، تحت مسمى حكومة اختصاصيين تحمل فى بنيتها عناصر شللها وفشلها. حكومة فريق عمل متجانس ومشروع إصلاح هيكلى متكامل وشامل لوقف الانهيار وإطلاق المسار؛ مسار الإنقاذ الوطنى، طريق دونه عوائق كثيرة دون شك ولكن لا بديل واقعى ممكن عن ذلك.. فإذا لم تفعلوا ذلك فعلى ماذا تتقاتلون غدا؟ على أشلاء وطن لم تصونوه أم على بقايا دولة لم تحافظوا عليها ولم تسمحوا أساسا بقيامها.