"السّينما فنّ الأثرياء"، هكذا يردد في الوسط السينمائي التونسي.
عبد الله الشامخ، الشاب الحالم، أسقط هذه المقولة، فابن مدينة بني خداش جنوب البلاد التونسية حمل معه ثراء روحه وروح أهلها، ليمنح العرب والأفارقة جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان الفيلم الأفريقي بولاية تكساس الأمريكيّة والذي أقيم هذه السنة عن بعد جراء أزمة كورونا، وهو مهرجان مخصص للسينما الأفريقية.
وقد ترشح الفيلم لأربع جوائز، كما أنه ترشح أيضا لعدة مهرجانات عالمية، وهو العمل التونسي الأول الذي يصور في الكوت ديفوار. الفيلم من إنتاج الجزيرة الوثائقية، أنجزته شركة الإنتاج التونسية Folk Stories Company.
عبد الله الشامخ مخرج وممثل تونسي ولد سنة 1982 بمدنين وتخرج سنة 2008 من جامعة منوبة، وهو مختص في السينما والتقنيات السمعية البصرية، وهو عضو في الجمعية التونسية للنقاد السينمائيين وللجامعة التونسية للسينمائيين الهواة.
عربي21 التقت المخرج عبد الله شامخ بعد تتويجه، للغوص في محتوى هذا العمل، الذي جعل صاحبه تحت الضوء، وأعاد للشريط الوثائقي توهجه في انتظار عرض خاص للفيلم في جويلية بمدينة الثقافة، أو ضمن فعاليات أيام قرطاج السينمائية:
كيف رأى عبد الله الشامخ هذا التتويج؟
ابتسم عبد الله قائلا: "ليس من عادتي الحديث عن نفسي أو عن أعمالي أو الافتخار بهذا الإنجاز أو ذاك، بل لا أحسن الحديث في هذا الخصوص، أو الإجابة على هذه النوعية من الأسئلة لأنها تحرجني فعلا، وتجعلني في دائرة الأنا".
كيف كانت فكرة الشريط ولماذا الكوت ديفوار تحديدا؟
بدأت الفكرة تتخمر منذ اطلاعي على كتاب الشيخ ديوب الذي اكتشفت من خلاله كيف لعبت الثقافة الافريقية دورا مهما في التاريخ، بل كانت لها جذور في الحضارة الفرعونية، ومن خلال الكتاب تعرفت أيضا على قبيلة بيبوري وبعض القرى الإفريقية في الكوت ديفوار، التي عرفت تحولات كبرى، الزعيم الروحي (لات) ظل صلبا في وجه تلك التحولات التي تهدد العادات العريقة، من خلال المحافظة عليها، عبر "حفل الأجيال" الذي صار تقليدا لدى شعب ادجوكور.
ماذا عن محتوى الشريط؟
تدور قصة "الغابة المقدسة" في إحدى الغابات الاستوائية بالكوت ديفوار، حيث رصدت أحد الطقوس المهددة بالاندثار وأنا أتحدث إلى أحد الزعماء الروحيين، (لات)، من أجل الحفاظ على التراث الروحي للأسلاف الذي أهمله شباب قرية "بوبوري" وخاصة طقوس "حفل الأجيال" وهو حفل يكشف عن صراع الأجيال، الأجيال الصاعدة التي تنظر إليه بازدراء، بينما يقدسه شيوخ القبيلة باعتباره حافظا لهويتهم ولأصولهم.
هل شعرت بالغربة وأنت تحاور من نعتبره "الآخر"؟
اكتشفت وأنا أصور أن هناك أشياء مشتركة بيننا نحن الأفارقة. لم أشعر بالغربة إطلاقا، وجدت نفسي أتواصل بشكل جيد رغم أني لا أجيد لغة القبيلة التي أنا بصدد التعاطي مع قضاياها. اكتشفت حضارة جديدة بطقوس عبورها، حضارة مهددة بالاندثار على حساب موجة الاستهلاك التي غزت كل شيء، حتى الغابة المقدسة أصبحت مهددة بموجة التمدن.
وعلى مستوى آخر سمح لي هذا الفيلم بتصوير عادات القبائل الإفريقية بنظرة سينمائي من شمال إفريقيا بعيدا عن النظرة والرؤية الغربية.
لم تنظر لهذه المناسبة نظرة فولكلورية كما يفعل السواح، بل تناولتها باعتبارها جزء من الصدمة الحضارية والانقسامات التي واجهها شعب قبيلة "أدجوكرو" ؟
هذا شعب يمثل عينة من الشعوب الإفريقية وغير الإفريقية التي تواجه صعوبات في حلّ الإشكالات التي تفرضها الهيمنة الثقافية السائدة المسؤولة عن اختفاء العديد من الهويات الإتنية التي لا تزال مخفية في غابات افريقيا.
قداسة وفلكلور، كيف تعاملت مع المسألتين؟
"الغابة المقدسة" صراع سرديتين ورحلة في الزمن وتدنيس المقدس أي للغابة بما تحمله من رمزية الهوية والثبات في وجه التحولات العاصفة التي تمثلها العولمة.
السردية الأولى تمثلها "جبهة الصمود" من الزعيم الروحي، والمؤمنين بموروث الأجداد الذي يقف في وجه الغزو الحديث. أما الجبهة الثانية فهي تلك المهددة بالاقتلاع من جذورها بعد تنكرها لطقوس العبور.
ويمكن اعتبار الفيلم قد أعاد كتابة الواقع، عبر سفر في الزمن طيلة أربعة قرون (رئيس قبيلة من القرن السابع عشر حتى اليوم). سفر أبرز تحول أجيال بفعل الاستعمار الثقافي، في تعاطيهم مع الطقوس، من هالة القداسة إلى الفولكلور.
الفيلم في وجه من وجوهه صرخة من أجل اكتساب ثقافة التحصين ضد الهيمنة الفكرية باعتبارها شظية وامضة تنذر بقدوم الاستعمار وتسربه من العقول إلى الأرض وسائر المقدرات.
توجهك جاد وملتزم بجملة من القضايا الكبرى، وأنت صاحب مشروع "سينما المخبر" ماذا عن المشروع؟
يتنزل هذا المشروع في إطار اتفاقية مع وزارتي التربية والثقافة في تونس، وبالتنسيق مع المندوبيات الجهوية للتربية والثقافة.
نجح المشروع في تكوين عدة أساتذة وتلاميذ أنتجوا عدة أفلام وثائقية، من اختيارهم تراوحت مواضيعها بين حماية المحيط ومشاكل اللاجئين والعنصرية وغيرها من المحاور الجادة. أنا أؤمن بأن تغيير الشعوب، لن يكون إلا من خلال الثقافة والفن.
منذ أيام كونت مجموعة من التلامذة في السينما والصورة في إطار مشروع فيلم دقيقة، لجمعية مسار للتّنمية الثقافية، وبعد ثلاثة أيام أنتج التلاميذ فيلما، وأغلبهم قرروا بعد الباكالوريا التخصص في السينما، أو المسرح، وأغلبهم قرروا شراء كاميرات من أجل إنتاج أفلام. خلال ثلاث أيام تغيرت عقلية شباب سيكونون حديقة مثمرة للمستقبل.