الشيخ إمام: العجوز الذي يغني للشباب الثائر في كل الأزمنة
عربي21- مصطفى علي27-Jun-2106:57 AM
شارك
كانت أغاني الشيخ إمام بعيدة عما هو خيالي وحالم ومثالي وكاذب
حين انتفضت الجماهير العربية في ثورات الربيع العربي
2011 خاصة في تونس ومصر، عاد الشيخ إمام مرة أخرى للواجهة الغنائية العربية، ملهماً
للشباب، معبراً عن مشاكلهم وطموحاتهم، فالوطن العربي يعاني مشكلة اللامساواة والاستبداد
منذ الأبد.
حين ظهر إمام للمرة الأولى في ستينيات القرن الماضي، ظهر
في سياق وطني مهزوم يسعى لتطهير الوطن من شوائب الناصرية التي أدت إلى الهزيمة، فغنى
إمام أغاني تعبر عن روحه المتمردة، وعن مشاعر شباب كانت كلها تتجه للإصلاح والتغيير،
فلم يكن الشيخ إمام يغني لأنه يريد الغناء، ولكن لأن الشباب كانوا يحتاجون إليه بالفعل..
اشتق الشيخ إمام أغانيه من مناخ ثقافي سياسي ساعده فيه بكلماته النارية أحمد فؤاد نجم.
غنى الشيخ إمام أغنياته كالمنشورات السياسية، فهي تُسجل في
السر، وتوزع على عدد محدود ومعلوم في البداية، ثم تنتشر بين الجميع، وكان كالزعيم الثوري
الذي يؤثر اللقاء بالجماهير والاحتكاك بهم بدلاً من أن ينظر لهم من أبراج عاجية، كان
الشيخ إمام حالة غرامشية في تاريخ الأغنية الثورية العربية، منحته مكانة تتجدد عظمتها
من جيل ثائر إلى الآخر.
الأغنية السياسية
تمخضت ظاهرة حركة الشعر الشعبي الملتزم، عن الأغنية السياسية،
التي كان أباً لها بيرم التونسي بأشعاره في مواجهة الاحتلال والسرايا، وظهرت على يد
سيد درويش تلك الأغنية القادرة على اجتذاب البسطاء حول قضية وطنية واحدة يحفظونها في
رؤوسهم بعيداً عن مناقشات النخبة التقليدية من الساسة والمثقفين.
إن تلك الأبوة الشرعية لبيرم ودرويش يؤكدها أحمد فؤاد نجم
حينما يغنيها إمام قائلاً:
"كإني كلمة في عقل بيرم، كإني غنوة في قلب سيد
كإني صوت النديم في ليلك، ينادي ناسك يشدوا حيلك"
إلا أن صعوبة كان يواجهها إمام لم يكن يواجهها سيد درويش،
فكان عدو سيد درويش هو المحتل الإنجليزي نفسه ما كان يزيد اندفاع المصريين للتحلق حوله،
أما عدو الشيخ إمام كان الفرعون المصري ذاته وهو ما كان يفرق المصريين حول حزبين وقضايا
عدة، إلا أن إمام أفاد من ظاهرة الكاسيت التي ظهرت في عهده، فسجل أغانيه لتنتشر كالنار
في الهشيم بين مثقفي الوطن العربي كله مهربة، حتى وصلت للتليفزيون الكوبي سنة 1968
الذي أذاع أغنية جيفارا مات.
الأغنية الأخرى
يطلق الناقد فيصل دراج على أغنية الشيخ إمام لقب الأغنية
الأخرى، التي تهتم بالنقد والتحريض، وتغنى بشكل جماعي يبث في نفس المستمع روح الثورة،
وهي أغنية تختلف عن أغنية المطرب التقليدي الذي يقف بعيداً عن جماهيره ثم ينتظر التصفيق،
ويبتعد حين تنتهي الحفلة، وانطلاقاً من الأغنية الأخرى، نصل إلى فكرة الجمهور الآخر،
وهو الجمهور الذي لا يكترث بشكل المغني ضريرا كان أو مبصرا، ولا يحلم بصورة معه أو
أوتوجراف منه، بل يذهب به إيقاع الأغنية إلى ما وراءها من موضوعات، لا تختلف أبداً،
فالنكسة لا زالت موجودة، وفلسطين لا زالت مسلوبة، والفقر يزداد، والجور على المزارع
لبناء القصور لا يتوقف.
تلك الأغنية الأخرى، هي أغنية لا مؤلف لها، بل يؤلفها مغنوها،
ولا ملحن لها، فملحنوها هم الجماهير المتحمسة، الراغبة في غناء مشكلاتها وحياتها اليومية،
لذلك شكلت أغنية إمام في الستينيات وما زالت تشكل حتى اليوم في مجالس محبي الشيخ إمام،
أغنية تجتذب الشباب الحالمين بمدينة اشتراكية فاضلة.
كانت أغاني إمام - نجم تستجيب لكل حالات الثورة والمقاومة
بأوجهها الوطنية والطبقية وهمومها الإنسانية، وصوت الشيخ إمام الخشن الأجش الذي يأتي
من خشونة الحياة نفسها، وامتلاكه قدرة رهيبة على تمثيل الكلمة والصورة بصوته بشكل ساخر
أو حازن مأساوي، جعلته يصل إلى المهمشين في شكل أغنية أو مونولوج يدفع عنهم شعورهم
بالمرارة بالسخرية والغناء.
ثنائية السخرية والتحريض تلك لم تكن لتكتمل غير بوجود شعر
فذ لاذع مثل أحمد فؤاد نجم، فالشيخ إمام هو نفسه الذي يغني "حلاويلا، شعبان البقال،
الفول واللحمة" قادر على غناء "الممنوعات، هما مين واحنا مين، البشاير".
غريب في وطنه
كانت شعبية إمام في الوطن مترددة، بالفعل كان يتحلق حوله
الكثير من الشباب الجامعي الناشط، إلا أنها كانت قلة لا تقاس بعدد الشعب المصري، الذي
كانت ذائقته الفنية تخضع للإذاعات الرسمية الموجهة من الحكومة في التلفاز والراديو،
ولأن إمام لم يكن مغن في أي منهما، انحسر نطاق انتشار إرثه في وطنه، إلا أنه اتسع في
مناطق أخرى كانت تحظى بهامش حرية أكبر في تونس ولبنان والجزائر، لذلك ظل إمام في مصر
حتى ثورة يناير 2011 كنبي غريب ولا كرامة له في وطنه، فبعد ثورة يناير تم إزاحة التراب
عن إرث الشيخ إمام، فكانت أغنياته تغنى في سهرات الثوار في الميادين، وعرفت أغانيه
طريقها إلى التطبيقات المستحدثة في Soundcloud"" و"Youtube".
إلا أن هامش الحرية في الجزائر وتونس ولبنان لم يكن فقط هو
من كفل للشيخ إمام أن يظل حياً في الذاكرة الفنية لتلك البلدان، إنما هو شعور جارف
من الشيخ إمام وفؤاد نجم بالانتماء إلى الوطن العربي كله بصفة خاصة، وإلى المقهورين
في العالم كله بصفة عامة.
فالشيخ إمام لم يكن يغني لمصر ومشكلاتها التي تتشابه مع جيرانها،
بل كان يغني صراحةً لتل الزعتر، ويغني للتونسي، وعشرات الأغاني عن فلسطين، بالإضافة
إلى الحفلات التي أقامها إمام في تلك البلدان والتي شهدت حشودا تتحلق حوله هو وفؤاد
نجم، وحتى في فرنسا وجالياتها العربية، فكان الشيخ إمام يحتك بجمهوره حول العالم العربي
أكثر مما يحتك بجمهوره في مصر، الذي كان كل لقاء بهم في أي تجمع وحراك ينتهي بالسجن،
ناهيك عن استحالة تنظيم حفلة في أحد القاعات الكبرى، ومراقبة الجلسات الخاصة في منزله
بحارة "حوش القدم" من أمن الدولة.
إلا أن ثورات الربيع العربي، في مصر تحديداً، أعادت للشيخ
إمام اعتباره، ومن خلال إعادة غناء أغانيه من الفرق الحديثة ككايروكي ومريم صالح لفت
الانتباه إلى أن تلك الأغاني نابعة من ظاهرة مصرية طمست في الماضي تسمى الشيخ إمام.
كانت أغاني الشيخ إمام بعيدة عما هو خيالي وحالم ومثالي وكاذب،
فهي أغنية لتناقضات الفلاح والمثقف والعامل والجندي لا تعطي البطولات الزائفة، ولا
تمجد سوى القضايا، كانت أغاني بروح الواقع تفتح الأعين على حقيقة الحياة والوطن، كانت
ألحانها وأداؤها بطريقة بالغة التلقائية والعفوية التي تداعب الأذهان لطزاجة فنها ومنبعه
الشعبي.
كان الشيخ إمام يغني لفيتنام وكوبا والوطن العربي وبوليفيا
وبابلو نيرودا وهوشي منه وإيران، ليحول حارة حوش القدم المنسية المهملة في حي مصر الفاطمية
القديم، إلى مزار لكل باحث عن الحقيقة، إلى مركز إشعاع وتحريض للحركة الشعبية المصرية،
والأغنية العربية الملتزمة، التي لا يزال يتردد صداها ضد الظلم حتى لحظة كتابة تلك
السطور.