لوك فيري الفيلسوف الفرنسي الباحث عن الخلاص، النجاة، من الخوف، التعاسة والماديّة التي عمّت على الكثير من الناس في أزمنتنا الحداثية الراهنة. يعد فيري المولود في عام 1952، من السوسيولوجيين الجُدد، كغيره من أقرانه مثل لاكان، فوكو، دريدا، دولوز، باديو، بورديو. توغل فيري في البحث والكتابة عن الأفكار والفلسفات والنظريات والممارسات، منذ أواسط السبعينيات إلى وقتنا الحاضر.
أصدر عدة مؤلفات، أشهرها كتاب "مقال في مناهضة الإنسية المعاصرة" و"النظام الإيكولوجي الجديد" و"الإنسان الإله أو معنى الحياة" و"تعلّم الحياة" وكتابه الذي صدر عام 2016، وترجمته دار التنوير في 2018، المعنون بـ"مفارقات السعادة".
بحث فيري في كتابه عن مُمارسة السعادة، ليس بالطريقة البدائية لمدرّبي التنمية البشرية، بل اعتمادا منه على نظريات ومذاهب وفلسفات وممارسات فكرية ونفسيّة ودينيّة، ليُحلل ويشتبك ويخرج بعدة أطروحات وسبل نحو التباسات السعادة، كمفهومٍ ونظريّة وممارسة. فكيف فَكك فيري السعادة؟
تناقض السعادة
يبدأ فيري في طرحه عن السعادة بأنها مُفارقة، أي على تناقض ليس تامّا، ويناقش هل يكون المرء سعيدا بذاته فقط، عندما يتعرّف عليها جيدا، ويبدأ في المصالحة معها، عبر اتخاذ السلوكيات المتناسقة معها. أم أنّه لابد أن يستجلب السعادة مِن المُحيط الخارجي لديه، أي أنّ الآخرين يُحوكّمون سعادة الفرد عن طريق سلوكياتهم، أَخلاقهم، خيرهم وشرّهم وغير ذلك.
يرى فيري وأنا معه، أن الطرح الأول، واستجلاب السعادة بفعل الذات الفردية فقط، دون غيرها، هو أمرٌ شديد المثاليّة، على الطراز الرواقيّ والبوذي، حيث يستشهد مؤيّدو هذا الطرح الفيلسوف الفرنسي فريدريك لونوار مثالا، بعدة نصوص كتبها أشخاص كانوا يعيشون في محيط خارجي تعيس، كما كانت الفيلسوفة الهولنديّة "إيتي هيليزوم" والتي قُتلت في معسكر أوشفيتز النازيّ عام 1943، حيث كتبت "أنها وجدت حياة جميلة، وتفيض بالمعنى، والواقع ليس عقبة كبرى لتحقيق السعادة"
هذا الطرح يغلبه واقعيا الطرح الثاني، نحن بالفعل نستدعي سعادتنا، أيا كانت لحظية أم دائمة من المحيط الخارجي، تفاعُلنا مع الأحداث، هذا لا ينفي أن ذواتنا -بالفعل- تشكّل عاملا مُهمّا للرضا على أنفسنا وسلوكياتنا وقدراتنا. لكن، يعيش الآن في عالمنا ملايين البشر من التعساء بسبب الحرب، السجن، القتل، اللجوء الفقر، وغير ذلك من مسببّات ليس لذواتنا دخلا فيها، بل هو الواقع أو الشر الذي لا يمكن إدارته أو محاربته، بوصف البولندي زيجمونت باومان في حديثه عن الخوف في زمننا السائل.
الحب
من بعد هذه المفارقة يطرح فيري 6 وسائل، أو سلوكيات، وجودها يعني بشكلٍ أو بآخر الشعور بالسعادة، أوّلها الحب. طرح لوكّ أمثلة أساطير مخلّدة، عن حكايات الحب والعشق، أشهرهما تريستان وإيزولد، اللّذان التقيا وأحبَّ بعضهما الآخر دون معرفة العداء الحربي بين مملكة كلٍ منهما، ويشاء القدر أن يفترقا ويتقابلا مرّةً أُخرى، ولكن تكون إيزولد من نصيب ملك تريستيان الذي أنقذه من الموت وهو صغير. هنا سعادة الحب تنقلب إلى شقاء، إلّا في لحظات التلاقي مرّةً أُخرى، عندما يتقابل تريستان مع إيزولد خفاءً ليمارسا حبّهما عن طريق الجسد، لاستعادة السعادة [1]
يؤكد فيري أن وجود الحب، شيء يحقق السعادة سواء كنت مَحبوبا أو مُحبّا، وهذا ما تؤكده جميع رسائل المحبين قديما وحديثا، حيث توجد أسمى مدلولات السعادة. أيضا، يكون الحبَّ شقيّا في حالاتٍ كثيرة، ضمنها الحبَّ من طرف واحد، أو الفراق أو الموت.
الإعجاب
وصف فيري الإعجاب بأنّه شعور مفاجئ بالسعادة، يُمنح للإنسان من خلال انبهاره بشيء ما، فتاة جميلة، ذكية، شيء فني، كلاسيكي، يدلل على مفهومٍ ما، يرجع بالذات إلى هُويّةً حضارية متأصلة، يحبّ الإنسان أن ينتمي إليها أو يتفاخر بالانتماء لها، لكن فيري هنا، ينتقد بشدّة الأنظمة الحداثية الموجودة حاليا، والمسيطرة عن طريق رأسماليتها الضخمة على تذوّق الأشياء ذاتها. استند فيري إلى المنظر السياسي الفرنسي توكفيل في نقدّه للحداثة الاستهلاكية التي صنعت أشياء ومنتجاتً ومفاهيم لا تنتمي إلى الأصالة، بل تنتمي إلى اللذّة التي تنتهي بمجرّد صناعة غيرها، فلا يتمكّن الإنسان من الإعجاب في ظل الاستهلاك.
الحرية أم السعادة؟
يستمر لوك في نقد الدولة الحديثة، وهنا من منطلق السلطة السياديّة، العقد السياسي/الاجتماعي، الذي تم الاتفاق عليه، أو منحه الشعب أي المجتمع للطرف الآخر وهو السلطة، يرى فيري وفقا للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، أن حالة التفويض السيادي للسلطة التي حدثت من قِبل المُجتمع، لا تُعبر بقدرٍ كافي عن الحرية بقدر ما تُعبّر عن الاستغناء عنها في مقابل استجلاب السعادة والاستقرار، بعد حروب دامية، وامبرياليّات توسّعية قتلت واستعبدت وسجنت مئات الملايين من البشر. الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، حسب هوبز، لذلك التخلّص من مآلات الحرب، كانت سببا رئيسيا للتسليم الكافي للسلطة، لفرض سيادتها واستثنائها -حسب المفكر الإيطالي أغامبين- على فئةٍ دون أُخرى من البشر.
رِحابة الفكر
الأداة الرابعة لدى فيري، هو وِسع الإدراك والأفق، أو كما يسمّيه الفيلسوف الألماني كانط "الفكر المُتسع" أي أن اتساع إدراك الإنسان للاختلاف من حوله، هو سلوك يجلب إحساس السعادة الفردية، أي خروج الإنسان من سجن عقله، عاداته، تقاليده، دينه، عائلته، ليس بشكل يناقضها، أو بهدف التبرأ منها، بل بالمعنى الإدراكي العقلي، بمعنى قبوله لِمعرفة أن كل الأشياء التي هي تمثل حاضنة ثقافية وزمكانية لديه، هي لديه فقط وليس لدى كلَّ الناس، فالناس هنا مُقسّمونَ إلى فئات واجتماعات، كل منها يمتلك خصائص مُتفردة بذاتها. برأي فيري أن الإنسان عندما يمتلك أُفقا واسعة، يستجلب تفرّدا لشخصه وبذلك، يكون أكثر إنسانيّة وسعادة.
سعادة المعرفة ومعاناتها
المعرفة عند الفيلسوف اليوناني سقراط، هي الرغبة الوحيدة التي لا يسبقها احتياج، بمعنى أن الإنسان لا يشعر بالاحتياج إلى المعرفة بشكلٍ دائم، مثلما يشعر بالاحتياج الفطري للطعام والشراب والجنس، وحتى الحبَّ. يذهب فيري أيضا إلى أن حبس المعرفة بعد اكتسابها داخل الذات الذاكراتيّة للإنسان لا يسببّ السعادة للإنسان -إلّا في حالة الغيرة والاستفراد بالمعلومة-، أما في الحالات الأخلاقية الحسنة، يعمل الإنسان على توزيع كل المعارف المكتسبة لديه، ومشاركتها مع الآخرين وتوضيحها وشرحها. هذا يحقق قدرا كبيرا من السعادة، بالمقابل قد يحقق قدرا آخرا مِن المعاناة، لأن المعرفة تستجلب وجود إرادة كرد فعلٍ، واتخاذ شيء ما ربما يكون أخلاقيا لمقاومة أو إصلاح سلوك ما تمارسه سلطة ما.
العمل لأجل الآخرين
في مِحوره الأخير من الكتاب، يؤكد فيري على نقده للحداثة، سيّما الاستعمار الخاص بالحضارة الأوروبية، كما أنّه يُعجب بها في مواضع اُخرى، ينتقد أيضا السلطة السياسية الحديثة، كوّنها موجودة من أجل السيطرة على الأشياء والناس، لا من أجل أخلاقياتها التي المُذاعة والمكتوبة في الإعلام والدساتير، حيث شبّه السياسة الحديثة بالتقنية، حيث قارب مفهومه عن السياسية بمفهوم الفرنسي فوكو عن السلطة الحديثة بشكلٍ كّلي، ليست السياسة فقط، بل التعليمية والثقافية والأخلاقية التي تعمل على إعادة هندسة وإنتاج الطبيعة الإنسانية وفقا للخضوع والسيطرة. أيضا، يدعم فيري من بين السطور عنوان مِحوره، وهو العمل من أجل الآخرين، أي أنّك تكتب، ترسم، تتحدث، تمثل، أو تتخذ فعلا ما، يعبّر عن احتياجات الآخرين من عيش في ظلّ مُقوّمات الكرامة والحرية والإنسانية، أفعال تجلب السعادة، لأنّها تنتزع الفردانية الذاتية التي لا تفكر سوى بسعادة نفسها لا سعادة الآخرين.
الهوامش:
1- تريستان وإيزولد، قصة حبّ رومانسية من العصور الوسطى، أثناء الحرب بين الإنجليز والأيرلنديين، تحوّلت تلك الأسطورة إلى فيلم سينمائي صدر عام 2006، من إنتاج بريطاني أمريكي، ومن إخراج الأمريكي كيفن رينولدز.
"الجنوبي".. كيف حكت الصحفية تاريخ شاعِرها الإنساني؟
خطبة الفلسطيني الأخيرة أمام الرجل الأبيض!