في نسختها العبرية اقتفت صحيفة "هآرتز" الإسرائيلية أثر صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، فنشرت صور وأسماء 67 طفلاً فلسطينياً ضحايا العدوان الإسرائيلي الوحشي الأخير على قطاع غزّة، تحت عنوان يقول: "هذا هو ثمن الحرب"؛ بل يصحّ التنويه إلى أنّ الصحيفة الإسرائيلية تفوقت على الصحيفة الأمريكية في أنّ الأخيرة نشرت صور وأسماء 66 طفلاً، تحت عنوان "كانوا أطفالاً فقط".
لم تمرّ الواقعتان من دون ردود فعل تعيدهما إلى "نصاب" سابق وقائم على أكثر من نحو، عنوانه تنزيه دولة الاحتلال عن ارتكاب جرائم حرب تذكّر بأسوأ ما ارتُكب بحقّ اليهود، الأطفال منهم بصفة خاصة. ولهذا سارعت "نيويورك تايمز" إلى نشر إعلان مدفوع على صفحة كاملة، يتهم العارضتين الشهيرتين من أصول فلسطينية بيلا وجيجي حديد، وكذلك المغنية البريطانية من أصل ألباني دوا ليبا؛ بالانتماء إلى حركة "حماس"، والدعوة إلى هولوكوست جديد. "هآرتز"، من جانبهما نعمت باتهامات شتى، ليس أقلها ما غرّد به عضو في الكنيست من أنّ الصحيفة… حمساوية!
أغلب الظن "أن" الواقعتين تعكسان، في مستوى أوّل من التأويل، مظاهر جلية لتحوّلات ملموسة في الرأي العام الإسرائيلي والأمريكي تجاه سلوك دولة الاحتلال الإسرائيلي عموماً، وسياساتها في الاستيطان والتمييز العنصري والعدوان بصفة خاصة؛ ثمّ التضامن مع الشعب الفلسطيني تالياً، على أصعدة إنسانية ابتداءً، ثمّ سياسية وحقوقية في المحصلة المنطقية.
وليست مبالغة أن يساجل البعض بأنّ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يعود من المنطقة وفي جعبته دلالات ذلك التحوّل كما عكسته صور الصفحة الأولى من صحيفة الليبرالية الأمريكية وصحيفة يسار الوسط الإسرائيلي، حيث لا يبدأ النطاق الدلالي من موقع الصحيفتين في الرأي العام الأمريكي ونظيره الإسرائيلي، فحسب؛ بل يذهب أبعد مما سمع بلينكن في رام الله والقدس المحتلة والقاهرة وعمّان لجهة غليان الشارع الشعبي الفلسطيني (من النهر إلى البحر، قولاً وفعلاً هذه المرّة)، والشوارع الشعبية العربية، بخصوص معادلة مستجدة نسبياً تضع القدس في قلب حصار غزّة، أو تقرّب هذه من تلك.
ولم يعد كافياً أن يجترّ الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن سويعات شرق ـ أوسطية وجيزة أمضاها كنائب للرئيس في ولايتَيْ الرئيس الأسبق باراك أوباما، أو أن يكتفي بإعادة إحياء صيغة حلّ الدولتين الكلاسيكي وفتح خزائن الإدارة أمام مساعدات إنسانية إلى غزّة، مشروطة على الطراز الأكثر افتقاراً إلى المعطيات الواقعية الفعلية. ثمة اضطرام في الرأي العام الأمريكي، وأوساط ناخبي بايدن والحزب الديمقراطي تحديداً، لا يستمدّ زخمه من التوأمة بين أهمية حياة السود وأهمية حياة الفلسطينيين فقط، بل كذلك من همجية العدوان الإسرائيلي بوصفها وحشية الضحية السابقة على وجه التحديد.
وكانت غولدا مائير، ابنة حزب العمل ورابع رؤساء الحكومة الإسرائيلية وأوّل امرأة تتولى المنصب، هي صاحبة العبارة الشهيرة: "يمكننا أن نسامح العرب على قتلهم أطفالنا، ولكن لا يمكننا أن نصفح عنهم لإجبارهم إيانا على قتل أطفالهم"؛ ولكنها، هي أيضاً، تلك التي وقفت ذات يوم قبالة شاطئ العقبة، وهتفت: "إنى أشمّ رائحة أجدادى في خيبر"؛ وأمّا رئيس أركان جيش الاحتلال، أفيف كوخافي، فإنه لا يأكل اللحوم لأنه ببساطة يكره قتل الحيوانات!
وضمن تغطية "نيويورك تايمز" عن القتلى من أطفال غزّة، يشير النرويجي كارل شيمبري، الناطق باسم "مجلس اللاجئين النرويجي" الذي يدير في غزّة برنامجاً للتربية والعلاج النفسي يختص بالأطفال، إلى أنّ 11 طفلاً من الخاضعين للعلاج في البرنامج استُشهدوا، و"هم اليوم دُفنوا مع أحلامهم وكوابيسهم في آن"، حسب تعبيره. والتوازي بين خيبرية مائير ولحوم كوخافي هو دفتر مواصفات لصهيوني معاصر اقتات طويلاً على صفة الضحية، ثمّ انقلب إلى جلاد/ وحش كاسر، تتلازم على يديه ثنائيات الحلم والكابوس، القاتل والقتيل، المستوطن الدخيل وابن الأرض الأصيل… واللائحة لا عدّ لها ولا حصر.