لكل أمةٍ فنونها التي تعتزُّ بها، وتعكس ضوءَ حضارتها على مدى التاريخ، وتظل تعتبر جزءًا من كيانها وأصالةِ وجودِها، ويعد الخط العربي أحد هذه الفنون الجميلة، الذي نفخر به ونتباهى به بين الأمم، إذ جعلت الأمة العربية والإسلامية من الكتابة فنّا عريقًا يسحر الناظرين منذ زمن طويل، فتجد اليوم الكثير ممن يعلّقون على جدرانهم الآيات القرآنية ليس للتبرّك بها فقط، وإنما لجمالها وإتقانها الذي لا يخفى عن العيون.
ينعم فن الخط حتى يومنا هذا
باهتمامٍ كبير، وشعبية تتجدد كلما خبا نورُها، فللخط العربي قدرة عجيبة على التجدد
باستمرار، فالكتابة العربية هي كتابة متّصلة، وهذا يمنحها مرونة وقابلية للتشكيل والإبداع
المستمر، وسهولة في تطويعها للكثير من أشكال الخطوط وأنواعها، كما يمنح ذلك التشابك
بين حروفها للخطاطين أفقا واسعا للخيال الفنّي، فينشأ في كل زمنٍ وعصر خطٌّ جديد
لا يقلّ جمالا عما قبله، فاتحا الطريق لخطوط أخرى تجود بها أيادي المحترفين والهواة
لهذا الفن الراقي.
يقول ابن خلدون في مقدمته عن
الخط العربي؛ "إنه صناعة شريفة، يتميز بها الإنسان عن غيره، وبها تتأدى الأغراض،
لأنها المرتبة الثانية من الدلالة اللغوية".
وُجد في العصر الإسلامي أنواع
عديدة من الخطوط، واتسم كل منها بصفات تميزه عن أي نوع آخر، ويمكن تمييز الاختلاف بينها
من النظرة الأولى، وهذا يدل على التفرد الذي تحظى به طريقة الكتابة للغة العربية، فهي
لا تزخر بالمفردات والمصطلحات فقط، بل تزخر بطرقٍ لكتابة تلك الكلمات تجعل حضورها أشد
ألَقا بين اللغات الأخرى.
من أشهر تلك الخطوط التي عرفها
التاريخ الإسلامي، الخط الكوفي الذي يميل إلى التربيع والهندسة، وقد اعتُني بهذا الخط
وازدهر في الكوفة، ويقسم هذا الخط إلى نوعين، النوع الأول هو الخط التذكاري، وهو خط
قاسٍ، وقد كان يستخدم في الكتابة على المواد الصلبة والخشب. أما النوع الثاني، فهو أكثر
ليونة وسهولة، وسمّي بخط التحرير، كما نتج عن المزج بين هذين النوعين "خط المصاحف".
أيضا يعتبر خط الثلث أحد تلك
الخطوط التي اشتهرت في العصر الإسلامي، وسمي بذلك بسبب استخدام ثلث رأس القلم، ومن
أسمائه أيضا قلم النصف، وهو من أصعب الخطوط وأجملها، ولا يعتبر الخطاط محترفا إلا
إذا كان متقنا له، واستُخدم الثلث كثيرا على جدران المساجد والمتاحف والواجهات، أيضا
برز في عناوين الكتب.
أما عن الخط الذي ازدان بكتابة
المصحف الشريف، فهو خط النسخ، وسمي بالخط البديع، لجماله واحتماله الكثير من التشكيل
الذي يزيده في كل مرة روعة وجمالا. أيضا هناك خط الرقعة، وهو خط سريع، ويُقال بأنه
يعود إلى عهد محمد الفاتح، ويمتاز هذا الخط بحروفه القصيرة والمستقيمة، كما يتصف بسهولة
قراءته ووضوحه.
من الخطوط التي أضافت لهذا الفن
سحرا خاصّا، الخط الديواني، ويرجع هذا النوع من الخطوط للعهد العثماني، حيث كان يستعمل
بالمراسلات الخاصة، نظرا لصعوبة قراءته، حيث لم يكن يستطيع قراءته سوى كاتبه أو الأشخاص
الذين يتصفون بالذكاء؛ لأن حروفه متشابكة بشكل هندسي دقيق، ويتم تشكيله بطريقة تجعله
يبدو كالقطعة الواحدة، وقد انتشر الديواني في العصر الحديث انتشارا كبيرا، وتزينت
به اللوحات والجداريات، كما ظهر خط التاج والطغراء والكثير الكثير.
لا شك بأن الخط العربي حظي باهتمام
كبير، خصوصا في العصور الإسلامية، وقد مثّل شكلا من أشكال الفنون البصرية، وكان بمنزلة بديلٍ لفن التجسيد والتصوير الذي حرّمه بعض علماء المسلمين؛ باعتباره تعدٍّ على قدرة
الخلق التي يتفرد بها الخالق الواحد، فهو المصوّر، ولا ينبغي لبشرٍ أن يضاهي خلق الله،
فانصرف الفنانون إلى رسم الحروف وتشكيلها والتحليق في هذا العالم المليء بالأسرار الجمالية،
وصنع أجمل التحف البصرية بالحروف العربية، من عباراتٍ قرآنية وشعرية وغير ذلك.
ويشابه تصميم الكلمات الفن المعماري،
كيف لا وهو يعتمد على الدقة والخيال، ويحتاج إلى تدريب للعين واليد على التركيز للوصول
إلى أشكالٍ هندسية تأسر النظر، وتحقق الغايات المنشودة، فتجلب اهتمام القارئ، وتبعث
الروح في الكلمات، فتبدو كموسيقى تعزفها الحروف المجتمعة في لوحةٍ مكتوبة بطريقة غير
مألوفة ومدهشة، وتبرز الوجه الفتّان لحضارةٍ عريقة وأصيلة.
استمرت الإبداعات في هذا الفن
من القرن العشرين وحتى يومنا هذا، مما يدل على أن هذا الفن باقٍ وممتد، ولا يزال يتجدد
باستمرار بالرغم من الحداثة وظهور التكنولوجيا والأجهزة الحديثة، التي تكتب العبارة
الواحدة بطرق عديدة ومختلفة دون عناء، وظل الخط العربي صامدا في ظل الأخطار المحيطة
باللغة العربية ذاتها، وحالة الضعف التي أصابتها لدى الشباب العربي من الجيل الجديد،
إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور محبين لهذا الفن العريق، بل وجد إقبالا على تعلمه، وقد
ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي في نشر ثقافة الخط العربي، وأقيم العديد من المنصات
والمواقع التعليمية لتحسين الخط والكتابة.
إن أهمية الخط العربي لا تأتي
من كونه إرثا حضاريّا فقط، وإنما لجمال القطع الفنية والزخارف المنتشرة في بقاع الدنيا، التي نالت إعجابا حتى من غير العرب والمسلمين.