نحن الآن في عام ١٩٥٣.. فور انتهاء الحرب الكورية، وعلى بعد ثماني سنوات من انقسام شبه الجزيرة إلى كوريتين..
«كوريا الجنوبية» رمز للبؤس والفاقة والتخلف.. حقول زراعية ممتدة تتخللها تكتلات عشوائية رثة من أكواخ الصاج، يقطنها ٢٠ مليون نسمة من الفلاحين قليلي الحيلة، يلفهم الجهل التام.
و«كوريا الشمالية» حيث القاعدة الصناعية الموروثة من الاستعمار الياباني ومرتكزات التطور النسبي في شبه الجزيرة.. يقطنها عشرة ملايين نسمة أُمِمَت الأراضي والمصانع لصالحهم.
تأخذ الكوريتان ملامحهما السياسية الأولى بالتقسيم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا في عام ١٩٤٥ عقب التحرر من التاج الإمبراطوري الياباني.. ولتبقى كوريا المقسمة تحت مجلس وصاية مشترك أمريكي سوفيتي حتى عام ١٩٤٨.. حينها يتم إجراء انتخابات في الشق الجنوبي، لتعلن جمهورية كوريا ورئيسها الأول «سينجمان ري» في أغسطس.. ولتعلن جمهورية اشتراكية في الشمال يعين فيها «كيم أيل سونج» تعيينًا مباشرًا دون انتخاب في سبتمبر من العام ذاته.. وهو رئيسها الذي يحكمها حيًا وميتًا منذ ذلك الحين..!!
تمضي « كوريا الجنوبية» على مسار سياسي يشوبه التفاعل والحركة بين قطاعات المجتمع.. فيه الأخذ والرد.. السلطة والمعارضة.. لم يخل من استبداد بالسلطة.. من تلاعب بالدستور.. من خوف وملاحقة للمعارضين.. ولكن بقي فيها برلمان به صوت معارض حقيقي حر، وإن لم يمكّن من كامل حريته.. وصحافة حية غير مأجورة لها مساحة من التفاعل الصحي مع الشأن العام، وإن لم تكن بالقدر الواجب لشعب ينضج بتلك الوتيرة.
وتبدأ نموها الاقتصادي باستراتيجية التصنيع للتصدير.. والأهم بانفتاح علمي واستثمار حقيقي في التعليم خلق الكفاءات التي قادت مسارها في المنافسة العالمية.
مسار كوريا الجنوبية السياسي وحتى وصولها إلى الديمقراطية الحرة عام ١٩٧٩ هو مسار - في عُرفِ البعض - متخبط غير مستقر.. وليس به «اصطفاف»..!
مسار به ما يكفي من التيارات الاجتماعية والسياسية المتشاحنة.. المصلحة العليا فيه واضحة للجميع، والأداء العام محل جدل صحي.. ولكنه مسار صاخب غير محمود لدى مدعي حب الاستقرار زورًا..!.
والآن، فلننظر إلى الشمال عبر أربعة كيلومترات لا أكثر.. وهي عرض المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين.. ولنرَ كيف حال «كوريا الشمالية» وهي قطاع من الأمة الكورية الواحدة: العرق واحد والثقافة واحدة والتاريخ واحد.
يبدأ تاريخ «كوريا الشمالية» السياسي الحديث تحت قيادة «كيم إيل سونج».. أو هكذا أراده هو أن يبدأ تاريخها كله، به هو وحده.. ووحده فقط..!!.
فـ«كيم إيل سونج» الذي كان واحدًا من قادة مقاومة كثر.. صار هو «الأب الحكيم» و«القائد العزيز» و«الرجل السماوي».. وتلك بعض من ألقاب كانت تطبع بلون الدم في المدونات والمنشورات الكورية.
إضافة لذلك، فمن الدستور إلى الكتب المدرسية، مرورًا بقوانين العمل ولوائح المؤسسات والنصوص الأكاديمية والصحف كلها من تأليف القائد الملهم «كيم».. وكان يتم التدريس لكل الكوريين الشماليين في المدارس أن ملابسهم وطعامهم وكل مناحي حياتهم هي «هبة من القائد الرحيم»..!.
قضى «كيم إيل سونج» على كل ملمح للاختلاف أو شبهة للتفكير أو النقاش.. استطاع بمزيج شيطاني من حكم الرعب والبروباجندا الفجة التي تصل إلى حد الجنون أن يسحب كل رحيق الإنسانية من شعب بأكمله..!.
شعب كوريا الشمالية صار شعبًا يُضرَب به المثل في الاصطفاف وراء الملهم والانسحاق التام من أجل الاستقرار.. «كلهم واحد» يعني..!.
لم يعكر الشعب البائس صفو قائده يومًا.. لا بنقاش ولا بحوار ولا بامتعاض تشتمّ منه مخالفة الأب الحكيم.. مات «سونج» عام ١٩٩٤ بعد أن تسلط لمدة ست وثلاثين سنة. مات وإن لم يزل يحكم من قبره بعد أن قتل روح شعبه بالخوف المهين.. مات ليرث السلطة ابنه ثم حفيده وشبيهه «كيم جونج أون»، ذاك الكائن الثلاثيني الرخو الذي يخطو على حافة الموت.
نحن - إذًا- بصدد شعب واحد ينتمي لأمة واحدة وحضارة واحدة وثقافة واحدة.. انقسم رغمًا عنه إلى دولتين.. بدأتا مسير المستقبل من نقطة بداية تكاد تكون واحدة.. لتسير كوريا الجنوبية في مسار إنساني حقيقي يشوبه كل النقص الإنساني من اختلاف وخلاف من اقتفاء للحرية يخفق حينًا وينجح أحيانًا.. من تطلع للعدل بتدافع بين عقول حية.. لم يخل مسار حكمها من مستبدين ومن ملامح خوف.. ولكن بقيت حقيقة أنهم بشر يتحاكمون كبشر.. يَحكمُون كبشر ويُحكَمون كبشر..!.
ولتسير كوريا الشمالية في مسار غير إنساني.. مسار يدعي الكمال والعصمة لشخص فرد واحد.. مسار ينكر أن البشر خُلِق مختلفًا فيجهد لينمطه بالحديد والنار ليضمن سكونه واستقراره.
ولنأتِ الآن إلى عام ٢٠٢٠ لنرى الآن أين انتهى كلا المسارين اللذين لم يخلوا من خوف..
الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية اليوم حوالي ١.٧ تريليون دولار (ألف وسبعمائة مليار دولار).. اقتصادها - الذي لا يملك أي موارد طبيعية غير عقول أبنائه - هو الاقتصاد العاشر على مستوى العالم، متقدمًا على روسيا التي تمتلك من الموارد ما لا يحصى.. أما كوريا الشمالية الباقية تحت جناح الأب الحكيم من قبره.. فإجمالي الناتج المحلي لها عام ٢٠٢٠ هو ثمانية عشر مليار دولار فقط.. لا يتجاوز واحدًا بالمائة من اقتصاد نصف أمتها الجنوبي..!.
التعليم في كوريا الجنوبية في الترتيب الثالث على مستوى العالم.. وبالتعليم صارت تمتلك واحدًا من كل خمس براءات اختراع تصدر على مستوى العالم اليوم.. ولا يوجد مستخدم للتكنولوجيا على وجه الأرض غير متقاطع مع أحد منتجاتها..!
في ترتيب الشفافية العالمية والذي يشير إلى مدى سلامة منظومة التقاضي، ومدى تساوي الجميع أمام القانون دون انحياز أو تمييز، ومدى شفافية ونزاهة إجراءات المنافسة، ومدى حرية تداول المعلومات وحرية التعبير والتفكير في المجتمع.. يأتي تقييم كوريا الجنوبية في المركز العشرين من أصل حوالي مائة وثمانين دولة..
والآن، لمن ما زالوا منا يرون أن حقوق الإنسان في الحياة هي أن يأكل كي يبقى ويصمت كي يأمن.. وأن أي حديث عن حق الإنسان في الحلم والتحقق والتطلع للحرية والعدل واقتفاء السعادة هو حديث واهم فاسد يؤلب سلام المجتمع ويحرمه استقراره.. فليقولوا لنا بالله عليهم: كيف استطاع نصف شعب من دولة فقيرة جاهلة أن يرقى بالعلم، وقبله بالإبداع وليد الحرية وبسلام مجتمع ضمنه القانون.. وأن يضاعف حجم اقتصاده خمسة وأربعين ألف مرة في سبعين سنة..؟!.
وكيف بقي نصفه الآخر - الذي يحيا موات الرعب استقرارًا في كنف أسرة «كيم» الملهمة - تتقاذفه المجاعات والمذلة.. يحيا على معونات أعدائه قبل أصدقائه.. كيف تتآكل دولته فسادًا وفقرًا وجهلًا.. وكيف ترتزق من المخدرات والجريمة وتلعب دور قاطع الطريق بسلاحها النووي..؟!.
لم يخلُ تاريخ بناء الدول وتطورها من الخوف وقهر البشر للبشر.. ولكن من الخوف ما قد يستنفر الوعي وإن استنزف الطاقة.. ومن الخوف ما ينزع رحيق الحياة..!.
رأينا على مدد الخوف دولة ودولة.. شعبًا قاوم الخوفَ بالحُلم فأقام دولته.. وشعبًا قتل الحُلم بالخوف فأمات دولته.
فَكِّرُوا تَصحُّوا..