كنا ننتظر محاضرة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في فقه السيرة وعلوم القرآن بمدرج مالك بن نبي بجامعة الأمير عبد القادر بشغف كبير، حتى إننا كنا نغادر الإقامة الجامعية في وقت مبكر زاهدين في كثير من الأحيان في فطور الصباح، كنا نزهد في الغداء المادي لنظفر بالغداء الروحي. حرصُنا على الجلوس في الصفوف الأولى على مقربة من الشيخ رحمه الله جعلنا نأتي مدرج مالك بن نبي قبل ساعة أو ساعتين حتى إننا لو لم نجد في ذلك الوقت إلا أن نستهمَّ على من يدخل أوَّلا لفعلنا.
لم تكن محاضرات الشيخ محمد الغزالي رحمه الله من الصنف الذي تستمع إليه فلا تحس من نفسك رغبة فيها ولا من ذهنك قبولا واستساغة لما يرد فيها، كانت محاضرات محمد الغزالي شيئا مختلفا تماما، كان الشيخ يحدثنا عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم فيقحمنا في عمق الغزوة حتى إننا لنستشعر صهيل الخيول وهي عادية ضابحة، وصليل السيوف وهي تقطع الأعناق، وأصوات الموحِّدين المكبِّرين وهم يغيرون على المشركين. لم تكن محاضرة فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله مادة جامدة، بل كانت محاضرة حية متفاعلة ينفخ فيها الشيخ من روح إيمانه وعمق فكرته وسعة خياله وتحليله فيقدمها في قالب ماتع لا يمل منها السامع. وكانت محاضرة الشيخ في علوم القرآن كذلك غنية وممتعة حتى إنه يحدثنا عن فترة نزول الوحي فينتقل بنا لاشعوريا إلى غار حراء فنشعر وكأننا بين جنباته نتحسس الحصى ونجلس على الثرى. كانت محاضرات الشيخ محمد الغزالي يميزها متعة اللقاء وروعة الإلقاء على خلاف المحاضرات التي ترهق سمعك وتشتت ذهنك وتربك أفكارك فلا تخرج منها بفكرة ولا بفائدة مرجوّة.
كنت أجد في محاضرات الشيخ محمد الغزالي رحمه الله لمسة أستاذه محمد أبو زهرة في رصانة الكلمة وغزارة المعلومة وعمق الفكرة، ومع أن الرجل كان يرتجل إلا أن كلامه يأتي متناسقا مترابطا كأنما عكف عليه الأيام الطوال ينمّقه ويهذّبه. كانت محاضرات الشيخ محمد الغزالي فتحا ربانيا لا يتحقق لكثيرين.
في بيت الشيخ الغزالي
كان بيت الشيخ محمد الغزالي رحمه الله قبلة لكثيرين؛ فمنهم من يأتي لرؤيته ومنهم من يأتي للفتوى، ولذلك لم يكن تتهيأ لنا نحن طلبته في الغالب الأعمّ فرصة زيارته في بيته، ولكن حدث أن خرج الشيخ ذات يوم من مكتبه فتحلَّق حوله خلقٌ كثير ثم انصرف معظمهم وبقينا معه أنا وثلاثة من زملائي فرافقناه إلى أن وصل إلى منزله فهممنا بالعودة ولكنه ألحَّ علينا بالدخول فدخلنا فجلس الشيخ وجلسنا وقدَّم إلينا بعض العصير فشربنا ثم بدأ يسدي لنا وصايا ونصائح ومن جملة ما قاله لنا: إنكم في مرحلة عمرية حاسمة وفي عنفوان الشباب وإن أمّتكم أحوج ما تكون إليكم فعليكم أن تستعدُّوا من الآن لتحمل مسؤولية الدفاع عن هذه الأمة التي تكالبت عليها كل أمم الدنيا وأن تعِدُّوا لذلك ما وسعكم من العلم النافع، ثم مد الشيخ رحمه الله يده إلى القلم وطفق يدوِّن على قرطاس ثم بادرنا بالقول إن العلم يُنسى وإن علاج هذا النسيان بالتدوين.
وحتى لا نقطع عليه حبل أفكاره استأذنّا للخروج فرافقنا إلى خارج البيت وهو يدعو لنا بالتوفيق. إن جلستنا مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في بيته أبانت لنا عن معدن هذا الرجل الذي لم يكن يهتم كثيرا لصنوف الطعام والشراب، بل كان كل اهتمامه منصبًّا على معالجة أدواء الأمة الإسلامية.
رجل حصيف وداعية متبصِّر
إن حصافة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حقيقة وقفنا عليها عن قرب؛ ففي كلامه مسحة خاصة تميزها قوة الحجة، فهو لا يلقي الكلام على عواهنه، ليس من هواة الجدل والثرثرة، يوصل إليك الفكرة بطريقة عجيبة تجد فيها إجابة شافية للتساؤلات التي تدور في خلدك، وأذكر في هذا الصدد أننا كنا معه يوما فجاءه شاب وسأله: يا شيخ يسكنني جني وجنسيته يهودية، فضحك الشيخ رحمه الله حتى بدت نواجذه ثم قال له: يا بنيّ دع عنك الوساوس وامض في طريقك، ألم يكف إسرائيلَ أرضُ فلسطين حتى جاؤوا واحتلوا جسدك؟. إجابة الشيخ المختصرة ألهمتنا لفهم حقيقة وهي أن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله لا يريد من المسلمين أن يهتموا بقضايا لا يترتب على علمها أو جهلها أثرٌ في الحياة، ولا يريدهم أن يُشغلوا أنفسهم بقضايا خاض فيها الأولون ولم ينتهوا بشأنها إلى اتفاق أو وفاق، بل كانت على النقيض من ذلك عاملا سلبيا زاد من تشتتهم وتشرذمهم. إن قضية تلبُّس الجني بالإنسي لم تكن من اهتمامات ولا من أولويات ولا من مذهب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، بل كان كل اهتمامه –كما أسلفت- منصبًّا على القضايا والمشكلات الكبرى التي تواجهها الأمة الإسلامية، وقد سار الشيخ على هذا النهج وأوصى به طلبته ومحبِّيه، وأذكر في هذا المقام أن أحد زملائنا في الدفعة الأولى كان على مذهب معيَّن، وكان كثيرا ما يعترض على الشيخ ويقطع عليه حديثه ويحاججه في عقيدة السلف وطريقتهم في الاستدلال ويتّهمه بطريقة غير مباشرة بـ”معاداة السنة” و”السير في ركاب أهل البدعة”، وكان الشيخ رحمه الله يجيبه انطلاقا مما قاله علماءُ السنة، ولكن الطالب كان يصرُّ على فكرته ويكرر ذلك في كل محاضرة فيلتفت إليه الشيخ رحمه الله ويبتسم.
رجلٌ محبٌّ للجزائر
كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله لا يخفي حبه للجزائر، وكان يثني على ثورتها المباركة، ويثني على علماء الجزائر وعلى رأسهم العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي. كان الشيخ معجبا بطريقة الإصلاح التي انتهجها عبد الحميد ابن باديس رحمه الله ويقول عنها إنها امتداد للحركة الإسلامية الإصلاحية التي قامت على هدي من نصوص الكتاب والسنة، وكان معجبا أيضا بأدب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، الذي يصفه بأنه واحدٌ من كبار الأدباء وفطاحل العلماء الذين سخَّروا ثقافته الأدبية لخدمة أمتهم الإسلامية. كان الشيخ محمد الغزالي يوصينا بالجزائر خيرا ويقول لنا إن الجزائر تعوِّل عليكم من أجل إحياء مجدها الحضاري والإصلاحي الذي بدأه الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، وأذكر هنا أن أستاذنا عمار طالبي -أطال الله في عمره- الذي عُيِّن مديرا لجامعة الأمير عبد القادر روى قصة مجيء الشيخ محمد الغزالي رحمه الله إلى الجزائر بإلحاح من الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد رحمه الله، وكان الشيخ مرتبطا في ذلك الوقت بعقدٍ مع كلية الشريعة بقطر فاعتذر، ليس عن عدم تلبية الدعوة، ولكن بسبب العقد والعقدُ شريعة المتعاقدين، ولكن القيادة القطرية تفهَّمت حاجة الجزائر لخدمات الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فأذنت له فجاء إلى الجزائر وأشرف على المجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر، وكانت السنوات التي قضاها بالجامعة حافلة بالنشاطات العلمية التي كان أبرزها “حديث الاثنين” الذي كانت أغلب الأسر الجزائرية تنتظره بشغف.
أقول في النهاية إن وجود الشيخ محمد الغزالي في الجزائر وفي جامعة الأمير عبد القادر على وجه الخصوص أثمر حبا جزائريا صادقا لرجل نحسبه صادقا ولا نزكي على الله أحدا. إن اتهام الشيخ رحمه الله بالتطرُّف فِريةٌ كبيرة؛ فالرجل عاش وسطيا ومات وسطيا، عاش محبا للأديان محبا للأوطان، ونحن طلبته ماضون في هذا الطريق باقون على منهجه لإيماننا بأن الديانة لا تتعارض مع المواطنة.
(عن صحيفة القدس العربي)