قد يبدو غريبا أن يجهل معظم المصريين اليوم أنّ أسلافهم كتبوا في الحب شعرا بالغ الرقة، بل يبدو غريبا ألا تهتم وزارات التربية والتعليم المتعاقبة بتقديم بعض نصوصه، بدلا من كثير من النصوص السقيمة المنتمية لمراحل تدهور الأدب العربي، كالعصر المملوكي مثلا.
تزداد المفارقة غرابة إذا علمنا أن شعراء عالميين مثل والت ويتمان وعزرا باوند وغيرهما نقلوا قصائد الحب المصرية القديمة إلى اللغات الأوروبية الحديثة، بينما نحن نجهل عنه كل شيء.
وقد وصلنا شعر الحب الفرعوني عبر برديات مختلفة، منها: بردية هاريس 500، وبردية شستر بيتي الشهيرة بالمتحف البريطاني، وبردية تورين بمتحف تورين بإيطاليا.
على أن القوالب التي كُتِب بها هذا الشعر لا تعنينا الآن كثيرا، لانقطاع صلتنا باستخدام الهيروغليفية القديمة، لكن الترجمات تدلنا على سمات واضحة لهذا الشعر.
أولى هذه السمات هي شيوع العاطفة الدافئة، التي تأسرنا بقوتها واندفاعها. ثمة تعبير رقيق عن الحب، يتخطى معظم مواضعاتنا الاجتماعية، وقواعد الإيتيكيت التي اصطنعتها الثقافة الحديثة، فالمرأة العاشقة تتلهف على حبيبها، وتتحسر على فراقه، وتتمنى لو تلتقيه بدلا من صيد الطيور التي أرسلتها أمها لاصطيادها.
ثمة حسرة على ضياع الحب، تكاد تبكينا من رقتها، لا نجرؤ على اتهامها بالمباشرة والسطحية رغم بساطتها، لما تحمله من دفقات شعورية هائلة.
اقرأ أيضا: آرثر رامبو.. من شاعر شهير إلى تاجر سلاح
قبل أن نحلل بعض ذلك الشعر، أحب أن أنوه أيضا بطزاجته وعفويته، التي تسمح للشاعر مثلا بادعاء المرض أملا في أن تأتي محبوبته لزيارته مع عائديه المشفقين، وهو ما يحيلنا إلى سمة أخرى في هذا الشعر؛ هي استمرار بعض أفكاره حيةً حتى يومنا هذا، ففي الأفلام والدراما المصرية، نشاهد بعض المحبين يجبرون أحباءهم على العودة إليهم، باصطناع المرض، دون قصد إلى الكذب أو الادعاء، بل يكون نوعا من طقوس الحب واختباراته المألوفة.
يقول الشاعر المصري القديم:
"أنام وأحتجب في البيت.
سأكذب وأدّعي المرض،
سيأتي الجيران يطمئنون،
وستأتي معهم حبيبتي".
وبالعفوية الساحرة تلك، يقول شاعر آخر:
"سيسعدني أن أكون خادمتكِ
وسأفرح عندما تضم كفايَ
الرداء الذي تركتِه..
ورائحتكِ المحبوبة ما زالت عالقةً به".
من سمات ذلك الشعر أيضا تساوي الرجل والمرأة في التعبير عن لوعة العشق. وصلتنا قصائد كتبها رجل لحبيبته والعكس صحيح أيضا، بل إن بعض العاشقات عبّرن عن حبهن تعبيرا جريئا لافتا، قد لا تجرؤ شاعرة مصرية حديثة على اقتراف مثله.
كما ولع الشعراء القدامى برسم المشاهد، إما على نحو تصويري مفصل ومباشر، على طريقة وصف كتّاب المسرحيات لمشاهدهم، أو على نحو مجازي محمل بالدلالات. تقول شاعرة مصرية قديمة في قصيدة تجمع السمات السابقة، دون أن يطغى أي منها على غيره:
تهبط طيور "بونت" (1) محملة بالطيب
في مصر.
وأول طائر يهبط يأكل طُعْمي
وأظافره فيها عبير.
لكم أود أن نطلقها معًا،
وأنا بجوارك
حتى تسمع صيحات طائري المعطر.
كم يحلو لي أن تكون معي
وأنا أنصب الشرك
فما أطيب الذهاب إلى المرج مع المحبوب.
***
الإوزة البرية تصرخ عندما يمسك بها الشرك
وهي على الطُعْم.
حبي لك يمسكني
ولكني لا أقدر أن أفقده.
***
سأسحب شِباكي وأعود.
ولكن ماذا أقول لأمي
وكل مساء أعود إليها محملةً بالطيور؟
لسوف تقول لي "ماذا،
ألم تنصبي اليوم أي شراك؟"
آه، أدار حبُّك رأسي....
***
يا أجمل كل الناس
كم أود أن أشاركك بيتكَ
زوجةً لك
كي تضع على ذراعي ذراعك.
ولكنك أدرتَ عني حبك.
أقول لقلبي بداخلي:
غاب عني حبيبي هذه الليلة
وأصبحت كمن في القبر.
ألستَ أنتَ الصحة والحياة؟
ألا تأتي إليّ ومعك الفرح؟
ألا تهمك صحة قلبي؟
***
صوت الطائر يغرد لي ويقول:
- "جاء الصبح، أين تذهبين؟"
- "لا يا طائر، لا تضايقني،
وجدتُ أخي في فراشه
وفرح قلبي.
قال لي: لن أبعدكِ عني،
يدي في يدكِ
أروح وأجيء معكِ في كل مكان بهيج".
سيجعل مني أولى الجميلات
ولن يحزن قلبي.
***
أظل إلى باب داري أنظر
أيأتي حبيبي إليّ؟
عيناي على الطريق
وأذناي تسمع.
حب حبيبي لي هو همي الوحيد.
وقلبي معه لا يسكت.
***
ها هو يبعث لي رسولاً
يجيء ويمضي مهرولاً
ليقول: "أصابني مكروه".
قل إنك وجدتَ حبيبة أخرى،
لماذا تجعل قلب امرأة أخرى يتألم،
وأموت أنا؟
***
ويسترجع قلبي حبك
وبنصف شعري مصفف
أهرع لأبحث عنك.
لا يهمني تصفيف شعري
لسوف أصففه إن كنتَ ماتزال حيًا
حتى أكون على استعداد لك في أي وقت" (2)
قد يصعب أن نجد في الشعر القديم قدرة كهذه لدى امرأة؛ تجاهر بلوعة شوقها إلى الحبيب الغائب، بهذا القدر من العفوية والبساطة بحيث تسرد صراعها مع أمها المتلهفة على صيد الطيور، بينما العاشقة ترغب في إطلاق طيورها بعد صيدها احتفاء بوجود الحبيب؛ إنه فعل الحرية والاحتفال بصخب الطيور المفلتة من الشرك، حين ترفرف بعنفوانها البري منطلقة في السماء المفتوحة بينما العاشقان يضحكان حفاوة بهذه الحرية.
تمسنا الحمولة الشعورية الجارفة للقصيدة، من ذا الذي لا يؤثر فيه سؤال كهذا: "ألا تهمك صحة قلبي؟" بعد أن باحت له بأنه أجمل كل الناس، الذي تتمنى أن تصبح زوجة له، يضع ذراعه على ذراعها. والحق أن هذا الوصف الأخير مدهش حقا؛ مدهشٌ أن البشر القدماء، رغم ما نظنه عن تخلفهم وقسوة طباعهم، أدركوا أن الاحتضان والإمساك بالأيدي من علامات الحب، وقد قرأت هذه الأوصاف أكثر من مرة في القصائد الفرعونية التي وصلتنا، كما نعاين ذلك في تصاوير المعابد وتماثيلها؛ مع أن كثيرا من البشر الآن لا يجدون وقتا لهذه الطقوس الحميمة، تحت وطأة حياتنا الحديثة وضغوطها التي لا نكاد نفلت منها إلا بالموت!
أما المجاز فلعله أبسط مكونات شعرية النص، لكن الأدب الفرعوني ليس وحده في ذلك، ففي العصور القديمة كان الشعر قريبا من الغناء الذاتي البسيط، ويبدو أن المجاز كان من مكونات الشعر التي نضجت وتعقدت بمرور الزمن وتكاثف المعارف الأدبية وتطور أساليب التفكير التي أبدعت الصور المجازية المركبة والاستعارات الغريبة.
فالشاعرة تشبه نفسها بمن في القبر، أي بالجسد الميت، كان ذلك مجازا وقتها، وهو وإن كنا نلاحظ بساطته الشديدة، التي لا يمكن مقارنتها بالصور الشعرية الحديثة إلا أن بساطته لا تعدم التأثير فينا بحوارها الطفولي مع طائر مغرد، يسألها أين تذهب فتجيبه "لا يا طائر، لا تضايقني، وجدت أخيرا في فراشه"..
(الأخ في الأدب المصري القديم يطلق على الزوج أو الحبيب). هل قصدت تلك الشاعرة الرقيقة إلى طرح منطق شعري جديد يرى في سؤال الطائر مضايقة لأن الشاعرة مستغرقة تماما في فرحة لقاء الزوج الحبيب، مثلما عبرت عن ذلك بمجاز مدهش: "وقلبي معه لا يسكت"؟
يقودنا ذلك إلى ملمح درامي قوي، هو ارتباط الشعر بالمسرح وقتها، وإن لم يعرف الأدب الفرعوني مسرحا كالمسرح اليوناني، لكن بنية الحوار وتداخلها مع وصف المشاهد يدل على روح درامية كامنة، فهي تصف المشاهد وتبث حوارات لها مع أمها مرة، ومع الطائر مرة، ومع ذاتها مرة، ومع حبيبها مرات، مثل سؤالها البسيط العنيف في آن معا: "ألا تهمك صحة قلبي؟".
وقبل الانتهاء من هذه القصيدة، التي لا أحب الانتهاء منها، لا بد أن نبتسم حين نقرأ شكوى المرأة الأزلية من كذب الرجال وخداعهم في الحب؛ الذي يبدو أنه سمة أصيلة في طباعهم منذ العصور القديمة، وليس وليد نزوة عابرة أو ضعف طارئ، فحبيبها يرسل لها رسولا بأنه مريض، لكنها تفحمه بغضب أنثوي صارخ: "قل إنك وجدت حبيبة أخرى"!
***
أخيرا أحب أن أختم المقال بمقطوعات شعرية أحببتها كثيرا:
أتمنى لو كنتُ
مجرد خاتم لإصبعك الصغير
حتى يتسنى لي
ملامسة أناملكِ
في خلسة من الآخرين." (3)
***
يقول شاعر آخر:
"في قصر حبيبتي مدخل في وسط الدار
بابه مفتوح
ستخرج حبيبتي غضبى.
آه لو جعلوني حارس بابها
حتى تؤنبني وأسمع صوتها وهي غاضبة مني
وأنا كطفل خائف منها" (4)
مصادر:
1-لم يتفق المؤرخون على تحديد موقعها بدقة، لكنها اشتهرت بالعطور الجميلة والبخور الفاخر.
2-هذه القصيدة من ترجمة د. منير مجلي، في كتاب: الجزيرة المسحورة، ص 28 وما بعدها. الهيئة المصرية العامة للكتاب.
3-القصيدة من ترجمة فكري حسن، في كتاب: أشعار الحب في مصر القديمة، ص 48 وما بعدها، الحضارة للنشر.
4-المقطع من قصيدة ترجمها د. منير مجلي، مرجع سابق، ص 45 وما بعدها.