آراء ثقافية

ليلة واحدة في ميامي أم في التحرير؟

ليلة واحدة في ميامي فيلم

لعلها مصادفة غريبة أن أشاهد فيلم "One Night in Miami"، (الترجمة: ليلة واحدة في ميامي) في الذكرى العاشرة لثورة يناير؛ تلك التي غيرتنا وأشعرتنا أننا بشر نستحق حقوقا إنسانية.

 

والحق أن الفيلم أعاد إليّ كثيرا من مشاهد يناير وما تلاها. أعني بذلك ما تلاها من صراعات سياسية واختلافات بين رؤى التيارات السياسية التي شاركت في الثورة، حتى وصل الخلاف حد الصدام والاشتباكات التي سقط فيها ضحايا.

تدور أحداث الفيلم بعد المباراة التاريخية التي فاز فيها محمد علي كلاي على بطل العالم للوزن الثقيل وقتها سوني ليستون منتزعا منه لقب بطل العالم الأصغر في تاريخ الملاكمة، وذلك في صباح يوم 25 فبراير سنة 1964، بميامي بيتش في فلوريدا. كان كلاي وقتها لا يزال كاسيوس كلاي، قبل أن يعلن اعتناق الإسلام بعدها بفترة قصيرة، وتغيير اسمه إلى محمد علي كلاي.

يلعب الفيلم لعبة ذهنية محفوفة بالمخاطر: يدخل العالم الرمادي بين الواقع والخيال. فالفيلم يفترض لقاء خياليا بين أربعة أصدقاء، تم بعد انتصار محمد علي في فندق صغير للاحتفال بفوزه التاريخي، لكن الاحتفال ينقلب إلى نقاش حاد بين قطبي النقاش: مالكوم إكس وسام كوك، بينما يتوارى محمد علي ليلعب مع جيم براون، دور ضابطي الإيقاع، اللذين يهدئان إيقاع المناقشة كلما أصبحت جدلا حادا.

بهذا المعنى، يعد الفيلم من أفلام الليلة الواحدة، حيث تدور أحداثه في تلك الليلة، مع حالات خروج إلى مواقف مرتبطة بها، كأنها نوع من العُقَد التي تربط تلك الشبكة الممتدة من الحوارات المعقدة، فتوازن الأفكار النظرية والجدالات بأحداث خارج سياق الليلة مرتبطة بموضوع المناقشة.

الأصدقاء الأربعة من نجوم السود الأمريكيين؛ كل في تخصصه. مالكوم إكس الداعية الشهير المنضم لجماعة أمة الإسلام بقيادة إليجا محمد، الذي كان معروفا عن جماعته بعض جوانب الانحراف الأخلاقي، كما كانت جماعة راديكالية تعادي البيض، ولا تكتفي بالمطالبة بحقوق السود، فكانت بذلك حركة انفصالية تدعو إلى تأسيس دولة منفصلة للسود.

ومع أن مالكوم إكس طرد من الحركة لاحقا، إلا أنه في ليلة انتصار كلاي كان لا يزال عضوا بها، يسعى لتجنيد كلاي، وهو ما كان في الواقع قبل أن ينفصل كلاي عن أمة الإسلام، وينضم إلى أهل السنة والجماعة. وهذا كان مربط الفرس في الفيلم.

فالطرف الآخر من الصراع هو سام كوك، أحد أشهر مطربي أمريكا في ذلك العصر. ومنذ البداية نلاحظ أن سيناريو الفيلم فرّق بين قطبي النقاش بشخصيتين متناقضتين: إكس منضبط، متدين، يحتفل بفوز صديقه بالآيس كريم لا الخمر، في حين كوك فنان منغمس في الملذات، يحتفظ بزجاجة خمر صغيرة أينما ذهب، وهو زير نساء معروف.

وينعكس البناء المحكم للشخصيات على أدائها بوضوح. فمالكوم صارم، مسكون بنضال راديكالي، ينتقد أصدقاءه لعدم استغراقهم التام في الدفاع عن حقوق السود على نحو مباشر وصريح، في حين يتبنى كوك منظورا مرنا، يرى في تأسيس شركة إنتاج تنتج أعمالا فنية كثيرة لعدد كبير من المغنين السود إنجازا كبيرا، حتى إنه يدافع عن قرارات يتخذها بإعادة إنتاج أغانٍ معروفة ضمن تراث السود لصالح مغنين بيض، وهو ما يؤدي إلى نجاحات فنية ومالية هائلة.

باختلاف المنظورين، تمضي المناقشات. مالكوم حاد الأداء، عنيف نسبيا، بسبب اعتناقه مبدأ النضال الحاسم، الصريح، مهما كانت تكاليفه، بينما يرى كوك مرن، يجيد إدارة الأعمال التجارية، يرى في نجاحه كمغن ومنتج أسود، نجاحا للقضية برمتها.

ما لا يقوله الفيلم صراحة لكننا نعرفه جيدا، أنه بعد سنة من فوز كلاي اغتيل مالكوم إكس، وبعد شهور قتل كوك أيضا في حادث مدبر.. كأن الفيلم يقنعنا أن السبيلين انتهيا إلى نتيجة واحدة، تليق بعبثية العنصرية البغيضة، التي يجلوها الفيلم بمشاهد متفرقة نرى فيها أبطال الفيلم يكتوون في مراحل من حياتهم بنار تلك العنصرية.

يلعب الفيلم على فكرة استثمار معلومات تاريخية، فثمة أدلة على أن هؤلاء الربعة كانوا أصدقاء، لكن الحوار كله متخيل مثلما اللقاء نفسه في تلك الليلة متخيل أيضا، لكن يبدو أن مادة النقاش وقضاياه كانت وقائع غير معلنة، لكنها حدثت، فقد استقبل كوك استقبالا فاترا عنصريا حين حاول الغناء في حفلات البيض في ملهى كوباكانا الشهير، وهذه حقيقة واقعية، أما حوار مالكوم وكوك بشأنها فغير معلن، أو غير ثابت تاريخيا مع أنهما كانا صديقين.

من هنا، يبدو الحوار ذكيا جدا بين الشخصيات، وهو يتشعب ويمتد لقضايا كثيرة، غير محددة سلفا، ويصل النقاش حد محاولة الاشتباك بالأيدي بين مالكوم وكوك، كما يغادر كوك غاضبا بعد أن عيّره مالكوم بنجاح بوب ديلان في الغناء لقضايا السود، على نحو سياسي مباشر، وقوي، ومستفز وقتها، بينما لم يجرؤ كوك حتى على انتقاد البيض الذين تعاملوا معه باحتقار في كوباكانا.

يبدو مالكوم إكس مناضلا راديكاليا، يرفع سقوف المواجهة بشجاعة لافتة، حتى إنه يبدو منفرا لأصدقائه، للدرجة التي يعلن كلاي في وجهه أن اعتناق الإسلام بدا له أفضل قبل هذه الليلة بسبب النقاش الذي حضره، بما يُفهم منه أن أداء مالكوم كان صادما له. كان حضوره ثقيلا حتى بين أصدقائه بسبب اختياره للنهج التصادمي في النضال.


ربما تكتمل تلك المفارقة إذا تأملنا مآلات ثورة يناير. فبعد سقوط مبارك، تصارعت القوى السياسية التي وقّعت على بيان النزول يوم 25 يناير، واستمر الخلاف وتعمق بفوز الإخوان المسلمين بأغلبية البرلمان، ثم الرئاسة، لينتهي المشهد إلى نتيجة عبثية أمامنا: الجميع في السجون. كل من طالته يد الانقلاب العسكري مسجون، في ظروف تزداد سوءا مع الأسف، مثلما انتهى مصير الصديقين المتجادلين: مالكوم وكوك!