بعد كل حدث سياسي هام ومفصلي، يكون فيه لبعض تيارات الإسلام السياسي حضور، تزداد حدة الانتقادات الموجهة لها، خاصة ما تتذرع به من المقاصدية كسبيل اجتهادي تسلكه لتخريج بعض آرائها، وبناء كثير من مواقفها عليه في ممارساتها السياسية المختلفة، سواء ما كان منها عبر مشاركاتها في المجالس النيابية، أو في الوزارات الحكومية.
ووفقا لباحثين فإن كثيرا من تيارات الإسلام السياسي في حراكها السياسي، ومشاركاتها السياسية تتبنى منظومة فكرية وسياسية مبنية على الفقه المقاصدي، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والنظر في مآلات الأقوال والأفعال، واستحضار فقه الاستضعاف لعدم توفر شروط التمكن والاستطاعة في كثير من الأحوال والظروف.
ومن آخر تلك الأحداث والمواقف، موقف حزب العدالة والتنمية المغربي ذي المرجعية الإسلامية، من التطبيع مع إسرائيل، حيث وقع سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية، الأمين العام للحزب، على اتفاق التطبيع مع إسرائيل، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة وساخطة في أوساط فلسطينية وعربية وإسلامية واسعة.
ودافع سعد الدين العثماني، عن توقيعه على وثيقة التطبيع مع إسرائيل بأن حزب العدالة والتنمية "لا يمكنه أن يقع في تناقض واصطدام مع اختيارات الدولة، ومع توجيهات الملك"، وهو ما فُسر على نطاق واسع بتبني الحزب لموقف جديد تجاه التطبيع مع إسرائيل يتوافق مع اختيارات الدولة وتوجيهات الملك، ويشي بتحول الحزب عن موقفه المبدئي الرافض للتطبيع من قبل، والذي كان يعده من المحرمات.
وقال العثماني في التقرير السياسي الذي قدمه السبت الماضي خلال الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني للحزب "إن اختيار الحزب للمشاركة في التدبير الحكومي وقيادته للحكومة، بقدر ما أتاح ذلك، وما يزال، من إمكانيات إصلاحية حقيقية، فإنه من الطبيعي أن ترتبط به إشكاليات وإكراهات ناتجة عن التدبير، بالإضافة إلى ما تفرضه هذه الوضعية من ترجيحات وتقديرات صعبة".
علق الأكاديمي السوري، المتخصص في الدراسات الإسلامية، معتز الخطيب على طريقة بعض المدافعين، الذين سعوا من خلالها لتكييف التوجه السياسي الجديد إسلاميا قائلا: "تعليقات بعض الإسلاميين المغاربة حول التطبيع مع إسرائيل توحي لك بأن ملك المغرب مقاصدي كبير، ولا أستبعد أن يكتب أحدهم مثلا: التطبيع مع إسرائيل: مقاربة مقاصدية!، وهذا جزء من عبثية المقاصد التي صارت سائلة وتخدم داعش والتطبيع وما بينهما".
من جهته أوضح الأكاديمي المغربي، المتخصص في مقاصد الشريعة، الدكتور عبد النور بزا أن "مجال العمل السياسي اجتهادي، والباب فيه مفتوح على ما يحقق المصالح، ويدرء المفاسد على قدر الإمكان، وهو ما عرفه ابن عقيل الحنبلي بقوله "ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي".
وتابع: "من الضروري التنبيه في هذا المقام على أن المقاصد مستمدة من الشريعة التي جاءت لتحقيق مصالح الناس، وهي مقاصد ووسائل، وهذا جماع القول في المقاصد، ثم تكون بعد ذلك تفريعات عديدة، تتأسس على الموازنة بين المصالح والمفاسد، فأي رأي رجحت مصالحه على مفاسده من غير أن يعارض أحكام الشرع أو يناقضها فيتعين الأخذ به، وهو ما تجتهد جماعات الإسلام السياسي في تطبيقه والأخذ به".
وقال في حواره مع "عربي21": "إدارة الشأن السياسي يقوم على تقديرات مصلحية بقدر ما يسمح به الواقع، ففي غياب شرط التمكن، فإن المسلمين مكلفون بالعمل على قدر استطاعتهم ووسعهم، وبما هو ممكن ومقدور عليه، مع ضرورة التفريق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكن".
وأضاف: "في مجال التنظير السياسي يتحدث الناس كثيرا، لكن حينما ينتقل الأمر إلى التنزيل العملي فإن الأمر يختلف اختلافا كبيرا، إذ لا بد من الجمع بين التأصيل النظري والتنزيل العملي بشكل واقعي ومعقول، فلا يجوز لمن ليس في الميدان، ولا في الساحة أن يفتي لمن هو منخرط في المواجهة، ومستغرق في المدافعة، لذا فإنهم هم الأقدر على تقدير الموقف واختيار ما يناسبه وفق حسابات المصالح والمفاسد".
أما عن إقدام حزب العدالة والتنمية على الموافقة على توقيع أمينه العام، رئيس الحكومة سعد الدين العثماني على اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، فبيّن الأكاديمي المغربي بزا أن "موقف الحزب الثابت هو رفض التطبيع، وهو المعبر عنه في أدبياته وعلى لسان قادته ورموزه منذ تأسيس الحزب إلى ما قبل التوقيع".
وأردف "لكن أمينه العام وقيادة الحزب وجدوا أنفسهم أمام الأمر الواقع، فإما أن يرفضوا التوقيع فيتحملوا تبعات ذلك، لا سيما وأن خصومهم العلمانيين لا ينفكون عن تأليب الملك عليهم، بوصفهم أنهم يستخدمون التقية في ممارستهم السياسية، ولا يصدقون فيما يظهرونه في أقوالهم ومواقفهم العلنية، وإما أن يوقع العثماني على كل ما في ذلك درءا لتلك المفسدة، فرجحوا موقف التوقيع باعتبار الملك مع القضية الفلسطينية، وقضية القدس، والحرص التام على مصلحة الفلسطينيين".
من جهته قال الباحث المصري في التاريخ والحضارة الإسلامية، محمد إلهامي "ثمة مشكلتان أساسيتان في التعامل مع (المقاصد)، الأولى مشكلة علمية تبدو في أن كثيرين يستعملون المقاصد قبل أن يستكملوا عدتهم العلمية والمعرفية، فالنطر المقاصدي أمر عالٍ لا يطلع عليه ولا يفقهه حق الفهم إلا من كثر علمه، وطالت خبرته في الفقه وكذا في واقع الناس".
وواصل: "وهو ما يمكن تشبيهه بمؤسسة الفتوى في الجهاز القضائي للدولة الحديثية، حيث لا يكون فيها إلا الخبراء القانونين الكبار، ولا يصلح أن يتناولها طلبة كليات الحقوق والقانون، أما المشكلة الثانية فهي محاولة التوظيف السياسي للمقاصد، بحيث أن السياسي يتخذ قراره بمعزل عن الشرع ومبادئه وأحكامه، ثم يلتمس له ذريعة في المقاصد، فكأن المقاصد هي بوابة (شرعية) للانفلات والانخلاع من الدين وثوابته وأحكامه".
ولفت إلهامي إلى أن "جوهر المشكلتين واحد، وهو الرغبة في الاستسلام للواقع وتبرير المخالفات، ففي الحالتين العلمية والسياسية لا يكثر ذكر (المقاصد) والتعلق بها إلا لمن تدل قرائن أحواله وأقواله على أنه متسارع إلى الانهزام والاستسلام للثقافة الغالبة، وللسياسة الغالبة" على حد قوله.
وتابع: "فلو أنه يظهر من هؤلاء استمساك بالدين ومنافحة عنه واعتزاز به، ثم بدا لهم في موقف أو موقفين أو ثلاثة أن يتنازلوا لكان المفهوم أنهم اضطروا إلى هذا اضطرارا، أما حين يبدو هؤلاء متسارعين في شرعنة الثقافة الغربية الغالبة، ومتسارعين في مهادنة السياسة الحاكمة فيتضح حينئذ أن استعمالهم لعنوان المقاصد ليس إلا ذريعة وغطاء لستر الحقيقة المرة" حسب عبارته.
بدوره قال أستاذ الفقه وأصوله في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، الدكتور عبد الله الكيلاني "إن مما يساعدنا في تطبيق المقاصد مراعاة الأولويات، ومن الأهمية بمكان تحديد أين تقع الدولة في مقاصد الشريعة، ومن ثم فعلى الإسلاميين أن يضعوا في اعتبارهم أنهم لا يريدون هدم كيان الدولة القائمة، بل يسعون إلى تدعيم مؤسساتها لتقوم بأعمالها على نحو أفضل".
وانتقد تيارات الإسلام السياسي التي تبني سياساتها ومواقفها على النظر المقاصدي بأنها في غالب أحوالها "دخلت إلى ميدان الإصلاح قبل نضوح رؤاها النظرية، فعلى سببيل المثال فالحركة الإسلامية في الأردن لم تطالب خلال ممارساتها البرلمانية بإصلاح القضاء، وهي مضطرة للاحتكام إليه على ما هو عليه الآن".
وإجابة عن سؤال "عربي21" حول ملاحظاته على استخدام تيارات الإسلام السياسي للنظر المقاصدي في حراكها السياسي، لفت الكيلاني إلى أنها "توصلت من خلال النظر المقاصدي إلى أهمية المشاركة في الحياة السياسية، سواء في الانتخابات البرلمانية، أو المشاركة في الحكومة، لكنهم للأسف اكتشفوا أنهم لم يُعطوا الصلاحيات الحقيقية للإصلاح والتغيير".
ونقل عن رئيس الحكومة المغربية السابق، عبد الإله بنكيران، الذي التقاه أثناء زيارة سابقة له للمغرب قوله "مسؤوليتنا في الحكومة لا تتعدى مسؤولية جهاز بلدي، وعملنا في غالبه خدماتي، أما الخارجية والجيش فيتبعان للقصر..، لذا فإنهم بالفعل فيما يخص التوقيع على اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني وجدوا أنفسهم في موقف صعب لا يحسدون عليه".
وختم حديثه بالإشارة إلى أننا "لم نستطع في عالمنا العربي بناء مؤسسات طبيعية، تدار شؤونها وفق قوانين منضبطة، ولوائح واضحة ومحددة، تسري على الجميع ولا تحابي أحدا، ما نتج عنه عدم ثقة غالب المواطنين بدعاوى الإصلاح من خلال المؤسسات الدستورية، وهو ما وضع دعاة الإصلاح في مواقف صعبة، إذ كيف تقنع الناس بالإصلاح وقد فقد الناس ثقتهم بذلك نتيجة لتلك الممارسات الخاطئة"؟.
تجربة الإسلام السياسي.. تحفز على الاستمرار أم تدعو للانكفاء؟
هل فقد الفكر السلفي تأثيره وحضوره في المجتمعات العربية؟
المغرب.. "العدل والإحسان" أزمة نسق وأزمة خيار (2من2)