لم يحدث التغيير المأمول في العالم العربي، بعد عشرة أعوام على اندلاع الثورات.. من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي صدحت حناجر عربية بهتافٍ واحدٍ: "الشعب يريد إسقاط النظام".. كشفَ هدير الصرخات عن هشاشة النظام الرسمي العربي، وعن رغبة واسعة لدى الشارع العربي بالتغيير من حكم طغاةٍ مستبدين، وعن توقٍ بالتحول نحو
الديمقراطية والمواطنة والحرية.
أنهى عقد الثورات أكثر الأنظمة قمعاً واستبداداً في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وأزاح من الخرطوم نظاما فاسدٍا، واستلهمت شوارع بغداد وبيروت والخرطوم - ولا زالت - من
الربيع العربي جرأة البوح عن أمانٍ كبيرةٍ بالتغيير، وكشفت
الثورة السورية عن دمويةٍ غير مسبوقة لنظام قاتلٍ وقمعي في سوريا.
عشرة أعوام مضت على ثورة 25 يناير المصرية التي حفزت الآمال بحدود لا سقف لها، في ليبيا واليمن فسوريا والعراق ولبنان والخرطوم، لتُغير وجه المنطقة العربية والإنسان العربي.. الأمل والنشوة في الثورة المصرية، والتصميم من شوارع عربية مضطهدةٍ ومقهورةٍ لتحطيم الخوف وهزيمة الرعب، قَدمَ نموذجا مختلفا لحالة قمع المجتمعات وإرهابها بقوة تحالف السلطة والمال، والأجندة الوظيفية لنظام مبارك وأنظمة متهالكة؛ بأن صورة المواطن العربي الخانع عديم الفائدة القابل للطاعة لن تكون أبدية وقدرية، كما كان يحلو لماكينة اعلام الأنظمة تقديمه عن مجتمعاتٍ؛ خلاصها يكون بالإيمان المطلق باتباع الحاكم وأقواله دون البحث عن أفعاله.
النشوة بالثورة لم تدم لوقت طويل، هدير الحناجر خلخل أنظمة كثيرة، وانهيار الخوف انقلب لرعب في قلوب الطغاة، لكن أثر الثورات خلق تحالفا سريعا ومتينا بين أنظمة الثورات المضادة في العام 2013 بعد انقلاب العسكر بقيادة عبد الفتاح السيسي، فكان "واجب" تنشيط
الاستبداد ضرورة أولى لإجهاض الثورة وقتل مولودها.
الثورة المضادة في مصر أعطت لأنظمة تخوض حروبها ضد مجتمعاتها الإسنادَ القوي في عملية الانقلاب الدموي الحاسم عليها، بتغليف إرهاب نظام الانقلاب في مصر بشعارات محاربة "الإسلاميين وقاعدتهم الشريرة" لمواجهة حناجر وتطلعات عشرات الملايين المطالبة بالحرية والكرامة والمواطنة، فأصبح شعار حلفاء الثورة المضادة ضد الشارع "محاربة الإرهاب"، باعتبار كل من يطالب بتغيير النظام أو انتقاده ينتمي لفئة "الإرهابيين المضللة والشريرة"، مع أنها فئات كشفت الثورات ارتباطها مع النظام بما فيها القوى المتطرفة والإرهابية في القاعدة وداعش وغيرها..
جاذبية نظام العسكر والانقلاب مع "سحر وفرادة الجرائم" التي أقدم عليها نظام السيسي في مصر ونظام الأسد في سوريا؛ أخفت تحالف الأنظمة مع الإرهاب ومع المؤسسة الصهيونية، فكان مغناطيس نخب كثيرة منقلبةٍ على تاريخها وأخلاقها وأدبياتها في اجترار تمجيد العسكر، وتبرير المذابح والقمع والتهجير.
بعد عشرة أعوام على الثورة بقيت نخب عربية تكرر رُعبها من "تجربة حكم الرئيس المغدور محمد مرسي" في مصر، وتعتبر ما حققه الأسد في سوريا من تحطيم ثلاثة أرباع المجتمع وتهجير نصفه وقتل مليون سوري؛ انتصارات على قوى "إرهابية وإسلامية".. تلك اللوازم الضرورية لإعادة تنشيط الاستبداد والقمع وحمايته من السقوط تجند لها حلف قوي للدفاع عنها، والبعض تبرع أن يكون بيدقاً في رقعة الحاكم لنزع الأوسمة من صدر الثوار ونعتهم بقطاع الطرق والإرهابيين والمأجورين.
تلك الضروريات لرواية مغايرة عن الثورات العربية، بحنين عميق للاستبداد، تغدت وتعشت بها نخب "ثورية وفكرية وأيديولوجية وحزبية وسياسية" في وصف الثورات، مع نفاق شكل أرضية مشتركة لمواقف غربية وأمريكية وعربية مع نخب كثيرة لتقديم غزل بـ"أيام الريس مبارك الحلوة" وبزمن القذافي الجميل، وبالأمان بعهد الأسدين وبحكمة بن علي وعلي عبد الله صالح، والتسلح بضروريات الشتم والحط والشيطنة لمجتمعات عربية وإسلامية، والتشكيك بتاريخها وعقيدتها، لتقديم مديح فج بصهيونية تثير إعجاب جمهور الطغاة، بموازاة إعجاب نخبٍ بعصابات الأنظمة وأفعالها. كان هدفا مقصودا من الثورة المضادة، سواء بالانقلاب على كل القيم أو بمواجهة المجتمعات بدموية وفاشية مسكوت عنها.
الثورات العربية ليست تسلسلا زمنيا، بقدر ما هي حركة لا رجوع عنها، وهي جزء من مدى طويل يتعرض لهزات تحفيز الآمال بمواجهة تنشيط الاستبداد. وفي موسكو اليوم درس لمستحاثات المعجبين بحليف الأسد ونتنياهو والسيسي. الإرث الثقيل للدولة العميقة في وظيفتها القمعية لا يبدل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكنه يبقى عاملا رئيسا في تحفيز الأمل بالثورة، فكيف بنا بالحكم على الثورات بعد عقد على اندلاعها، وملايين الأسباب تضاف لاندلاع ثوراتٍ وثورات في وجوه قتلة شعوبهم وحماةٍ لمحتلين بفجور سيُنشط براكين قادمة؟
twitter.com/nizar_sahli