يُتداول كثيرا مثل هذا السؤال وغيره من الأسئلة الخاصة بأفق المسار السياسي لحزب العدالة والتنمية، والمغرب يستعد لإجراء الاستحقاقات الانتخابية المتزامنة خلال الخريف المقبل (2021). والواقع أن مصدر الاهتمام بهذا الحزب المدني المغلّف بـ"المرجعية الإسلامية"، ينبع من السياق العام الذي أوصله إلى قيادة الحكومة خلال ولايتين تشريعيتين متتاليتين (2011-2021)، ومن نوعية الخطاب السياسي الذي عبّر عن توجهاته، وصاغ مواقفه خلال الولاية الأولى تحديدا (2011-2016)، وبشكل أقل أثناء الولاية الثانية (2016-2021).
صعد نجم حزب العدالة والتنمية في سياق ما سُمي الحراك العربي، ولطالما صرّح قادتُه خلال أكثر من مناسبة بأن تنظيمهم مكّن البلاد من تجنّب ما حصل في أكثر من قُطر عربي، وأنهم شكلوا بمعنى ما "البديل السياسي" الذي كانت شرائح واسعة من المجتمع المغربي تبحث عنه وتتوق إلى تحقيقه، بعدما تآكلت مشروعية التنظيمات السياسية بكافة ألوانها الأيديولوجية والفكرية. بل إن أكثر الأحزاب قدما، من الناحية التاريخية، دخلت دائرة الضعف والتراجع، إن لم نقل "الموت البطيء".
والحقيقة أن البُعد التأكيدي على هذه النقطة من جانب "الإسلاميين المغاربة" لا يخلو من توظيف سياسي في علاقة الحزب بالسلطة (المؤسسة الملكية)، وفي صلته بمكونات المجتمع السياسي المغربي، بل يمكن التأكيد على أن هذه السردية كانت تروم إقناع الطبقة السياسية وشرائح واسعة من المجتمع المغربي بأن دور الحزب جاء في وقته، وأن الزمن السياسي يحتاج إلى تنظيم من نوعه، بعدما تقهقرت صورة العمل السياسي وأداء الفاعلين السياسيين خلال العقود الأخيرة.
تضمن برنامج حزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات التشريعية التي أعقبت إصدار دستور 2011؛ مصفوفة من الوعود والبرامج والتطلعات، يمكن حصر جوهر عناوينها في: الإصلاح ضمن الاستمرارية، ومحاربة الفساد، وتوفير شروط العدالة الاجتماعية.
وقد عبر قادة الحزب فور تصدرهم انتخابات مجلس النواب عام 2011، وقيادة الحكومة من قبل أمينهم العام "عبد الإله بنكيران"، عن إرادتهم في الوفاء بوعود الحزب الانتخابية، وشرعوا فعلا في وضع أياديهم على بعض الملفات ذات العلاقة بقطاعات الفساد، كما أكثروا من حديثهم عن خدمة الشرائح الاجتماعية التي تعاني من أوضاع الهشاشة، والعوز المادي، أو التي ليست لها مصادر رزق قادرة ومستمرة. إلا أنهم اكتشفوا بالتدريج أن ثمة فجوة كبيرة بين الرغبة والواقع، وأنهم مجرد جزء في بنية مركبة وذات طبقات سديمية من التداخل والتعقيد، وهو ما دفعهم تدريجيا إلى الابتعاد عن الاستمرار في الحديث عن محاربة الفساد، وتطهير القطاعات التي توطد فيها هذا الوباء لسنين عديدة.
لم تكن قصة اصطدام حزب العدالة والتنمية بالفجوة بين الرغبة والواقع في هذا الملف فقط، بل واجه الظاهرة نفسها في مجمل سياساته، بما فيها الجوانب الاجتماعية التي ظن أنه سيحظى بنصيب وافر من الإنجازات في مجالها. فقد شهد المغرب خلال ولايته الأولى أكثر السياسات المتضارَب حولها اجتماعيا، ونُفذت على يديه، علما أن أية حكومة من الحكومات التي سبقته لم تمتلك جرأة الأقدام على مثل هذا السياسات الاجتماعية، القاسية والمؤثرة جدا.
والحقيقة أن الحزب اكتشف، وإن لم يُفصح عن ذلك جهرا وبصراحة كاملة، أن للعمل من داخل المؤسسات منطقه، وللممارسة السياسية من خارج مدارج السلطة منطقها الخاص. والحال أن المنطقين في عموم الأحوال والأوضاع يكونان متباعدين ومتباينين. لذلك، اكتشفت شرائح واسعة من المجتمع المغربي مع تعاقب سنين قيادة حزب العدالة والتنمية للعمل الحكومي، أن "الإسلاميين" الذين أعطوا صورة مخالفة عن العمل السياسي، ممزوجة بقدر من "الطهرانية" وكثير من الوعود الجذابة، ليسوا هم "الإسلاميين" الذين شرعوا في تذوق شهية السلطة، وما يتولد عنها من منافع ومصالح وإكراهات أيضا، بل لمسوا لدى الكثير من قادة هذا الحزب انفصاما بين المعبر عنه في أقوالهم وتصريحاتهم، والمنجز في واقع الممارسة والتنفيذ. بل إن عددا من المواطنين رأوا في سياسات الحكومة التي قادها "الإسلاميون" على مدار ولايتين تشريعيتين؛ إضرارا بأوضاعهم الاجتماعية، وأحسوا، في المقابل، أن الحزب خذلهم، ووزع عليهم وعودا لم تجد طريقها إلى التطبيق والإنجاز.
ربما لا يختلف المتابعون للشأن السياسي المغربي، ولتجربة حزب العدالة والتنمية، في أن "الإسلاميين" قدموا صورة عن أنفسهم لم تكن واضحة عنهم ما قبل 2011، ونميل إلى الظن بأن عددا من قادتهم لم يكونوا واعين تمام الوعي بما ستؤول إليه أحوالهم حين ينتقلون من خارج السلطة إلى قلب ممارستها. فهكذا، يمكن استنتاج مجموعة من العناصر المشكلة للصورة الجديدة لما أصبح عليه حزب العدالة والتنمية، بعد أن راكم عشر سنوات من قيادة الحكومة.
فمن جهة العنصر الأول، ظهر "الاسلاميون" أكثر براغماتية وقابلية للتكيف مع الأوضاع المستجدة في الواقع السياسي المغربي، وقد دفعتهم هذه النزعة البراغماتية إلى التناقض الواضح مع وعودهم وتصريحاتهم، والتنكر أحيانا لمبادئهم.
أما العنصر الثاني المشكل للصورة الجديدة، فيتعلق بتمسكهم بالسلطة والتماهي مع مقتضياتها، وإن كلفهم ذلك التخلي عما يمنحهم الدستور والقوانين ذات العلاقة من سلطات واختصاصات، ويفرض عليهم من واجبات.
وبخصوص العنصر الثالث المشكل لهذه الصورة، فيخص المكانة الحقيقية للحزب داخل منظومة ممارسة السلطة في المغرب، حيث تأكد أن الحزب مجرد جزء داخل بنية معقدة ومتنوعة المكونات ومصادر القوة. فهو من جهة خاضع لائتلاف حكومي موسوم بالتباين والتنافر، كما أنه، من جهة أخرى، تابع بحكم الدستور لتوزيع خاص للسلطة، مختل لغير صالح المؤسسة التي يقودها.. الخلاصة إذن، أن الحزب لن يختلف مآله السياسي عن مآلات الأحزاب التي سبقته، حتى وإن ظفر بفوز جديد في استحقاق الخريف المقبل (2021).
الإسلاميون وفلسطين.. من يستفيد من الآخر؟!