"الحيرة" أفضل عنوان لتوصيف الحالة التي وصلها
التونسيون اليوم. حيثما ولّيت وجهك إلا ووجدت الناس يسألون أنفسهم أو يتبادلون فيما بينهم سؤالا ثقيلا: تونس إلى أين؟ سؤال لا يقف عند حدود المواطن العادي الذي لا يشغله كثيرا الشأن العام في كلياته، وإنما أصبح من المألوف أن تجد النخبة العالمة تدور في نفس الحلقة، تطرح السؤال ثم تعيده دون أن تصل إلى إجابة مقنعة وجامعة.
بلد بعد عشر سنوات من الانتقال الديمقراطي تشعر بكونه مشلولا، بعد أن ضاقت بسكانه السبل، وضجروا من أحزابهم ومنظماتهم وجميع الماسكين بسلطته التنفيذية والتشريعية، وبدا لهم أن رئيس دولتهم يزداد ابتعادا عنهم يوما يوم، وهو ما جعل نسبة الثقة فيه تتراجع بحوالي خمس وعشرين نقطة خلال أقل من سنة ونصف. كما تتعمق الخيبة في جميع مكونات النخبة. فما هو مصدر هذا القلق الجماعي؟ وما هو سبب هذا البحث المضني للخروج من وضع أشبه بنفق لا منفذ له؟
عاد شعار "الشعب يريد أن يسقط النظام" ليرفع من جديد في شارع الحبيب بورقيبة الذي يسميه الشباب "شارع
الثورة". صحيح ترفعه أقلية يختلط فيها السياسي بآخرين دفعتهم مشاعر الإحباط والغضب إلى النزول إلى الشارع والاحتجاج، لكن ماذا يعنون بالنظام الذي يطالبون بإسقاطه؟
لا خلاف حول القول بأن التغيير الجذري الذي افترضته بعض التيارات الثورية لم يتحقق على أرض الواقع، فالصيرورة لا تزال متواصلة، لكن القول بألا شيء قد تحقق على أرض الواقع رأي فيه شطط كبير، ورغبة في عدم الاعتراف بأن المشهد العام في تونس قد اختلف عما كان عليه الحال قبل عشر سنوات. مع ذلك فإن هناك من يسعى جاهدا لإعادة عقارب الزمن إلى الخلف، وحتى هؤلاء الذين يسيرون ضد اتجاه التاريخ لن يتمكنوا من استنساخ تجربة بن علي، وإنما قد تمكنهم الظروف السيئة التي تمر بها البلاد من الوصول إلى مشهد أسوأ بكثير مما كان عليه الأمر قبل 2011. لكن قبل الارتداد إلى الخلف، ما هي الكلفة التي سيقدمها التونسيون عندما يستسلمون لقوى الثورة المضادة؟ لا شك في أنها ستكون باهضة جدا، وقد تحول البلاد إلى سجن كبير بدون رحمة.
حاول الرئيس السابق منصف المرزوقي أن يقنع أنصار الرئيس قيس سعيد الذين يطالبون بإرساء
نظام رئاسي يكون بديلا عن النظام شبه البرلماني الذي تضمنه دستور 2014، ووجه إليهم رسالة طويلة ورد فيها ما يلي: "هل تصدّقون حقا أن المشهد السياسي الرذيل والفقر والفساد هو نتيجة الدستور؟ لا. هو نتيجة حكم الثورة المضادة منذ سبع سنوات بالإعلام الفاسد والأحزاب السياسية الفاسدة وقانون انتخابي.. أصبح اليوم عبئا على الديمقراطية".
كان رأيه هادئا وعاقلا، لكن في أجواء الغليان وصناعة الأوهام يصعب الاستماع، وتنخفض درجات الاستشعار بحجم المخاطر التي يخفيها المستقبل. المهم من وجهة نظر جزء من المحتجين والغاضبين أن تتواصل طرقاتهم على الجدار من أجل فتح الثغرة، حتى لو أدى ذلك إلى انهيار السقف والجدران.
أما شباب اليسار وقادته، فقد ساندوا
الاحتجاجات الأخيرة من منطلقات مختلفة. هم يتوقعون أن الثورة سُرقت من قبل "الإسلاميين والفاسدين وبقايا النظام القديم" حسب اعتقادهم، وقد آن الأوان لدعم الحراك الذي حدث خلال الأيام والليالي الأخيرة. ورغم أن هذا التحليل قد تبنته كل فصائل اليسار تقريبا، إلا أن بعض اليساريين حذروا من خطورة خلط المفاهيم والتورط في سيناريوهات مسقطة ووهمية. من بين هؤلاء اليساري محمد الكيلاني، الذي حذر رفاقه من سوء فهم ما يجري بقوله: "لا هو ثورة مستمرة، ولا هو احتجاج، بل هي مجرد فوضى اختلط فيها الحابل بالنابل، وظنها أصحابها بكونها الشرارة التي ستلهب حقلا، لأنهم يعتقدون بأن الحركة هي كل شيء لتحريك الشارع ومواصلة المسار الثوري". كما حذرهم من أن الأوضاع المزرية "لا تبرر التوجه هكذا إلى الشارع، بشكل يمكن للجماعات المحافظة أن تستولي عليه وتزيحنا منه باعتبارها أكثر قوّة وتأثيرا في الأحياء.. والقطاعات. بل من الممكن أن تستغله فرق فوضوية ومغامرة، وحتى إجرامية ويمينية متطرفة إرهابية لبث الفوضى وتشويهه".
تواجه تونس مخاطر عديدة ومتزامنة، منها ما هو سياسي أو اجتماعي، غير أن أشدها خطورة وقسوة هو تحذير صندوق النقد الدولي، ودعوة تونس إلى ضبط كتلة الأجور والدعم المخصص للطاقة والتحويلات إلى الشركات العامة، محذرا من "أنّ العجز المالي قد يرتفع إلى 11.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (2020)، وهو الأعلى منذ ما يقارب الأربعة عقود".
هنا تكمن الثغرة الأساسية في التجربة التونسية، إنها مريضة اقتصاديا، ولا يمكن حماية الديمقراطية إذا كانت المنظومة
الاقتصادية عاطلة ومنتجة للفقر.