سنة التدافع بين الجموع البشرية كانت وستبقى من أهم العوامل التي تدل على حيوية المجتمعات وتوقها للأفضل. وليس أفضل من الشعر الشعبي معبرا وراصدا لحالات الناس البسطاء يرددونه في أفراحهم وأتراحهم وتلهج به أفئدتهم عند استحضار الحكمة أو الطرب أو الفخر.
في عام 1927 توفي الشيخ إبراهيم الشلول الملقب بالدوقراني وكان قد بلغ عامه المائة. عاش سنوات حافلة بالشعر والقرب من صناع القرار في منطقة حوران المشتركة بين شمال الأردن وجنوب سوريا.
كيف لنا نحن أبناء السوشيال ميديا أن نقترب من هذه التجربة الفريدة بعد مرور قرن من الزمان على انطفاء ذبالتها... وهل من الممكن الاحتفاظ ببعض الدفء الذي كان منتشرا بفضلها في تلك الأزمان؟
هناك.. كانت السهرات تتناقل تلك الأشعار مثل الأنخاب التي تفرع من محتواها وتظل حموضتها معلقة في فضاء المضافات.
علينا أن نتحلى بالصبر الذي غادرنا مع تسارع الأحداث المفصلية علينا. لكنها فرصة لتذوق الشهد الذي يكمن في كل الفنون.
لاستيعاب الشعر الشعبي علينا أن نسقط بعض التقاليد التي كانت تهيمن على روح الناس آنذاك للوصول إلى جوهر الفن فيه. وعلينا أن نقارب اللهجة المحكية للقصائد.
فمن تقاليد الشعر الشعبي آنذاك المقدمات الشعرية؛ وهي مبتدأ الدعاء لله بالتوفيق وبالصلاة على رسوله الكريم، ومن ذلك أيضا نهايات القصيدة بنفس الأدعية. وعند الشاعر الفذ سوف تختلف صياغات هذه المقدمات بحسب موضوع القصيدة ذاتها. ومن تقاليد القصيدة الشعبية أيضا بعض الأغراض الشعرية التي حلت محلها أدوات أخرى في عصرنا كأن يكون الشعر وسيلة لاستعطاف ما.. وغير ذلك.
وأما اللهجة المحكية في تلك الحقبة، فهي بوابة الإيقاع الذي سنحاول جاهدين في هذه العجالة تقريبها للقارئ العربي.
يبدأ الديوان الذي جمعه حفيد الشاعر بمقدمة احتفالية تذكر بعضاً من سيرة الشاعر وتتحدث عن بعض مأثوراته من القصائد، وهي في معظمها معروف لدى أهل حوران ممن لديهم أدنى اهتمام بتاريخ المنطقة. ولدى تصفحنا للديوان نجد أن قصائد الدوقراني المجموعة في هذا الكتاب وهي بلا ريب لا تعبر عن تجربة شعرية امتدت أكثر من ثمانين عاما وحسب – نجد أن هذه القصائد تتوزع فيما بين تاريخ المنطقة وتفاعل الناس مع أحداث عصفت بهم من حروب وتناحر بين الزعامات أو سنوات المحل التي كانت تؤثر بالعقد الاجتماعي الذي كان يحدد علاقة الفرد بمحيطه. كما أن هذه التجربة لا تغفل الجانب الشخصي ومكابدات الفرد ضمن تحركه الفاعل في المحيط، وكل ذلك نجده معجونا بذكر حوران التي ظلت أثيرة في هذه القصائد كقيمة عليا فوق الجميع ولا يمكن المساومة عليها.
من قصائد الديوان قصيدة سنة المحل، والتي قيلت سنة 1925 في سنة شديدة مرت على المنطقة. إن إحساسه العالي بالقضية الشعرية جعله يستغل التقليد الشعري في بداية القصيدة وهو البدء بالحمد والثناء على الله وعلى رسوله الكريم ليجعل منه جزءا أصيلا من الشعر، فقد حوله إلى ذكر خاص يتناسب مع خطاب التضرع بنزول المطر
إبْتديتْ إبْذكرْ مولانا الإله الْعزيز المُرْتقبْ والي الرِقابْ
رَبَّنا الْمعبود لا نعبدْ سواه غيرْ باب الله مالينا ابْوابْ
ذكرهُ في الْمرابح والغَناه عن لذيذ الزاد يغني والشراب
الكريم الْ ما يخيب من رجاه إن دعيته في دعائي مستجاب
ثم تستمر القصيدة بالتضرع إلى الله بالغيث وبجاه الأولياء الصالحين والأنبياء بأدعية بليغة. تتحسر على تغيير طباع الناس بسبب القحط ولا يفوته ذكر حوران وحالها في هذه الظروف القاحلة مع التركيز على أنها صاحبة الفضل والسبق بالكرم والأصالة.
وأما في قصيدة سجن كليب الشريدة (وهو أهم زعيم عشائري في ذلك الوقت) وكان على علاقة طيبة مع الشاعر. فإننا نجد روح التبرم والغيض من الأمير عبد الله رغم أنه يخاطبه بالأمير ويمدحه ويرجوه إطلاق سراح الشيخ كليب.
روح التبرم والغيض تتجلى في تعداده لبطولات أهل حوران وأنهم لا يرضون بالذل والضيم. فإذا قمنا بتفكيك هذه القصيدة وأزلنا شوائب المديح والمقدمات ووضعنا في الحسبان موقف الشاعر وقربه من الشيخ كليب؛ سنجد أن خطابها الحقيقي ينطوي على تهديد خفي بتعداد بطولات حوران وأهلها وأن لا أحد يقدر عليها وذروة ذلك قوله:
حوران مثل البنت حره تقيه ماحدْ كشف سترها على دور باكير
أجنبيةٍ مصيونةٍ محتميه إشيوخها بالسيف لِها نِواطير
ثم خطاب ثان فيه تعريض بالأمير وبعهده الجديد وأن الموت أفضل من الحياة فيه وذروة ذلك في قوله:
نطلبْ من المعبود رب البرية يامر على اصرافيل ينفخ على الكير
بلكي تْنام الناس نومه هنيه يجري الْحساب وينتصر فاعل الخير
يا مير ما زالك على الظاهرية لمْ يحكمونا ربع حاييم واستير
ويقصد في البيت الأخير: أيها الأمير بما إنك على دين الإسلام فلماذا تجعل اليهود يتحكمون بنا؟!
قصيدة الحصان
قصيدة الحصان من القصائد المشهورة والمعروفة جدا لدى أهل المنطقة وهي تنطوي على ذكاء فطري لدى الدوقراني واحساس عالٍ بمفردات عصره، كما أنها تنم عن شخصية ساخرة وحس فكاهي فريد. فقد طلب منه أحد اصدقاءه الأعزاء حصانه لكي يستخدمه في بعض أعمال الفلاحة، وكان لا يرد طلبا لذلك الصديق وبنفس الوقت كان هذا الحصان عزيزا عليه خاض به المعارك وله ذكريات أثيرة لديه خاصة بيوم معركة سمخ ضد المعسكرات البريطانية والمستوطنات الصهيونية التي استشهد فيها الشيخ كايد المفلح العبيدات.
اقرأ أيضا: محمد عبد المطلب.. محاولة لمقاربة الوجدان المصري
لذا فقد ادعى أن حوارا قام بينه وبين الحصان وترجم ذلك شعرا ثم تطورت القصيدة وتنامت حتى أصبحت (خصومة) تتطلب حلا يحكم به أحد شيوخ المنطقة وأكبر كبرائها ومن غير أبو فلاح الشيخ كليب الشريدة زعيم منطقة الكورة.
ومما يدل على الود الصادق بين الدوقراني والشريدة أن الاخير استمع لهذه القصة الشعرية بروية وقطع مجلسه وقدر الشاعر بعدها بهدية ثمينة... ثم طارت هذه القصيدة ورددتها التعاليل (السهرات) في صفاء ليالي حوران وما زالت.
يقول الدوقراني على لسان حصانه:
ما تذخرنْ لا صار صايح وفزعه لا فزعة الصبيان قامت تلالي
لا مثل يوم في مشارف بقعه يومٍ جردتو ع سمخ للقتالي
يوم السبايا قوطرتْ مد ذرعه من بزر متر اللوز طبه جفالي
لولاي ظليت بشعيبٍ وتلعه ما شفت خودك والوطن والعيالي
وبعد..
فلا يكاد يخذلنا الدوقراني عبر قصائده في ترداد ذكر حوران والتعلق بها وحبها والغناء لها بل التمتع بذكر حدودها من الشمال والجنوب والشرق والغرب.
لقد كان وجدانه ربابة حوران طافحا بالطرب والحب الصافي الذي صدقه الناس وما زلنا نعيش ذلك الحب ونتهجاه ونحاول أن نبلغ بعضه.
يقول في تصويره لحوران:
نُحْتِ نوحْ الطفل في مهدْ وسريرْ ما ينام الليل من كثر السهرْ
عا بلادٍ منبتهْ قمح وشعيرْ ما بها غرس وبساتين وشجرْ
اسمها حورانْ ما لِيها نظيرْ بيتْ مجدٍ للضَّعَافهْ والنورْ
ما وَلِيْها كلْ صنديدٍ جبيرْ عالي الرتبه، عليها ما شبر
صدَّر ابراهيم من فعله كسير واحمد الجزار ليها ما جزر