مع بدء زيارة رئيس الانقلاب في مصر عبد الفتاح السيسي لفرنسا، بدأت موجة من التقارير الحقوقية والمناشدات للرئيس الفرنسي ماكرون، للضغط على السيسي لوقف انتهاكات نظامه ضد حقوق الإنسان.
هذه الموجة سيكون مصيرها مثل غيرها من تقارير ومناشدات في زيارات سياسية سابقة للسيسي إلى بلدان غربية أخرى، مثل بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة.
لن يحصل تغيير في سياسة النظام المصري، ولن تنتهي انتهاكات حقوق الإنسان، وسيكتشف المصريون مرة أخرى كذب ادعاءات الدول الغربية حول رعايتها لحقوق الإنسان، أينما كان!
تأكيد المؤكد!
التصريحات التي أدلى بها ماكرون في مؤتمره الصحفي مع السيسي، هي مجرد تأكيد جديد لحقيقة معروفة، وهي أن حقوق الإنسان في العالم ليست من ضمن أولويات الدول الغربية الكبرى، فأولوياتها ترتبط بمصالحها الاقتصادية والسياسية، وهي حاليا تتلخص في أربع أولويات في الشرق الأوسط: الأولى: الحفاظ على استمرار صفقات السلاح المربحة مع دول المنطقة ومنها مصر واستمرار تدفق الطاقة من غاز ونفط، الثانية: محاربة "الإرهاب" وهي الكلمة المشفرة التي يقصد بها الإسلاميون، سواء من كان منهم يتبنى أيدولوجيا "السلفية الجهادية" أو الحركات الإسلامية السياسية التي تنبذ العنف وتعلن إيمانها بالديمقراطية. الثالثة: منع الهجرة غير القانونية إلى أوروبا، والرابعة: إدامة حالة التفوق الاستراتيجي لدولة الاحتلال.
تلك هي إذن أولويات الحكومات الغربية في الشرق الأوسط، وهي تتحقق لها مع أنظمة استبدادية تحكم بالقوة وتستند إلى شرعية الأمن أكثر من الأنظمة الديمقراطية التي ستعمل وفق مصالح شعوبها وتطلعات ناخبيها.
ثمة حاجة لفهم هذه الأولويات ووضعها نصب أعين المناضلين لحقوق الإنسان في الدول العربية، لأنها تعني باختصار أن حقوق الإنسان ليست فقط خارج اهتمامات الحكومات الغربية، بل إنها أيضا ليست في صالح هذه الحكومات، لأن الحكم الديمقراطي الذي يحترم حقوق الإنسان يعني تمثيل الشعوب والعمل على تحقيق مصالحها هي، وتلك مصالح ترى النخب الحاكمة في الغرب أنها تتناقض مع مصالحها.
عندما اغتيل الصحافي السعودي جمال خاشقجي بطريقة بشعة تنتمي للقرون الوسطى قال ترامب بشكل واضح إنه لن يفرط بصفقات السلاح مع السعودية وبتعاون واشنطن مع الرياض لمواجهة طهران رغم اعترافه ببشاعة الجريمة، "فالحي أبقى من الميت" عند الحكومات الغربية.
ماكرون نفسه كان أكثر وقاحة في تعليقاته على اغتيال خاشقجي، فبعد ديباجات الإدانة والتنديد، وشعارات الحرية وحقوق الإنسان، أكد أن المطالبة بالتخلي عن صفقات السلاح مع "زبائن" فرنسا الأغنياء هي سذاجة.
هكذا ببساطة تتحول الدول العربية إلى زبائن، وتتحول عاصمة "الأنوار" إلى تاجر شنطة!
أما الدول الأخرى الغربية القليلة التي أعلنت تجميد صفقات السلاح مع السعودية، فقد عادت لاستئنافها بعد هدوء موجة التنديد، أو أنها ترتب الآن لإعادتها كما كانت في السابق.
لا طائل، والحال هذه، من استمرار محاولات "شراء الانتصارات" الحقوقية من دول الغرب من قبل النشطاء الحقوقيين، فهذه الدول لا تبيع أوهاما، بل هي متخصصة ببيع الشعارات والسلاح فقط، لتحافظ على استمرار تشغيل موظفيها، وتطوير اقتصادها، وعينها في هذه المقاربة على الناخبين من مواطنيها، وليس على "المعذبين" من شعوب الدول العربية المحرومين من حقهم في الانتخابات!
الحقيقة في الداخل
هل يعني هذا تخلي المناضلين الحقوقيين عن نضالاتهم لتحقيق العدالة في بلادنا؟ بالطبع لا. ولكن المطلوب هو عدم المراهنة على الغرب، بل النظر إلى الداخل، ففي الداخل فقط تكمن حقيقة التغيير.
عندما اندلعت ثورات الشعوب العربية ابتداء من تونس قبل عقد من الزمان، تأخرت كل الدول الغربية في إعلان تأييدها لهذه الثورات، لأن مصالحها مع الأنظمة المستبدة، ولكن مواقفها تغيرت عندما بدأت قوة الشعوب تتقدم في البلاد الثائرة، لأنها أرادت ترتيب أوراقها مع ما ستفرزه الثورات من واقع جديد.
انتصرت الثورات الشعبية العربية بفعل صمود أبنائها، وليس بفعل الضغوط الغربية، وهذه حقيقة لن تتغير، وسيبقى "الداخل" هو من يحدد مواقف الغرب، وليس العكس.
إذا أدرك المناضلون الحقوقيون والسياسيون هذه الحقيقة، سيعلمون أن جهودهم ينبغي أن تتوجه للنضال داخل بلادهم، عبر تنوير شعوبهم بحقوقهم الأساسية، وصناعة ضغط شعبي على الأنظمة، لأن هذا الضغط هو ما سيبقى في نهاية الأمر، وليس تلك التصريحات الخجولة للروبوتات من ناطقي الخارجية الغربيين الذين يقرأون نصوصا معدة مسبقا، ومكتوبة بعناية، لضمان عدم إغضاب "زبائنهم" من أنظمة الحكم العربية.
لن يكون النضال في الداخل وعبر تنوير الشعوب و"تثويرها" سهلا، ولن يكون نزهة في ظل أنظمة قمعية مستبدة، وسيكون ثمنه غاليا، ولكنه هو الوحيد الكفيل بتحقيق تغيير حقيقي ومستدام في الدول العربية.
قدرنا كعرب، مثل غيرنا من الشعوب المقهورة في العالم، أن نغير واقعنا بأيدينا. لم يحصل تغيير حقيقي في أي أمة عبر قوى عالمية، ولن يحصل أبدا. هذه حقيقة تاريخية لن تتغير!