اعتادت المنطقة أن تحيا في الظواهر الصوتية للقيادات الحاكمة. ربما كان التيار المُسمّى بـ"التيار العروبي" هو الذي نشر هذه الظاهرة في الخمسينيات والستينيات في فترة ما بعد الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي، خاصة عند الحديث عن دولة الاحتلال الصهيوني التي توعدوها بالإلقاء في البحر، لتستيقظ الأمة على واحدة من أبشع هزائمها عام 1967.
برحيل سيد الظاهرة الصوتية العربية عام 1970 مع هزائم متتالية وقبول، انتقلت الظاهرة إلى ورثة التيار العروبي في ليبيا والعراق وسوريا، لكن الملفت أن الأسد الذي احتُلّت أرضُه في 1967 لم يحارب إسرائيل بل تفرّغ لمعاداة جاره البعثيّ مثله، في مشهد عبثي يليق بقيادات الظواهر الصوتية.
ما يستدعي تلك الذكريات المخجلة، نمو ظاهرة صوتية جديدة في المنطقة، لكنها إيرانية هذه المرة؛ فإيران التي تعادي أمريكا وإسرائيل ليل نهار، أصبحت تتلقى الضربات الموجعة والمباشرة دون رد على نفس مستوى الحدث، وتكتفي بضرب حلفاء الأمريكيين من العرب، وهو رد غير مباشر أيضا عبر الوكلاء الإقليميين لإيران.
ظاهرة صوتية جديدة في المنطقة، لكنها إيرانية هذه المرة؛ فإيران التي تعادي أمريكا وإسرائيل ليل نهار، أصبحت تتلقى الضربات الموجعة والمباشرة دون رد على نفس مستوى الحدث
حوادث الاعتداءات الصهيو- أمريكية عديدة، أبرزها الاعتداء على المنشآت النووية، أو الهجمات الإلكترونية ضدها، كذلك سبق اغتيال أربعة
علماء نوويين إيرانيين منذ عام 2010. وتُنسب ردود الفعل الإيرانية على قتل العلماء الإيرانيين، إلى عمليات ضد إسرائيليين في أوروبا وأمريكا اللاتينية، في محاولة باهتة لمداراة الصفعة.
لكن التصعيد الجديد تمثّل في اغتيال القيادي العسكري الأبرز في الجمهورية الإيرانية قاسم سليماني ليل 2 كانون الثاني/ يناير2020، وهي العملية التي تبنتها الولايات المتحدة بوضوح. ويبدو أن انعدام رد الفعل الإيراني أغرى باغتيال محسن فخري زادة الذي يُعرف بـ"عرّاب المشروع النووي الإيراني"، ورغم عدم تبني أي جهة للعملية، فإن الإيرانيين بادروا إلى اتهام دولة الاحتلال الصهيوني، خاصة أن تفاصيل عملية الاغتيال تشير إلى عملية متطورة.
بحسب وكالة فارس للأنباء، وهي وكالة شبه رسمية، فإن عملية الاغتيال تمت في ثلاث دقائق دون استخدام عنصر بشري، بل تم إطلاق النار على زادة بواسطة
رشاش آلي يتم التحكم فيه عن بعد، وتم تثبيته على شاحنة سافر صاحبها خارج إيران قبل عملية الاغتيال، وهو ما دفع الإيرانيين إلى نِسْبة العملية لدولة الاحتلال الصهيوني.
تمثّل الرد الإيراني الأول في
رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المئة، والتهديد بالرد على هذه العملية، ولكنه رد يشبه الرد على اغتيال قاسم سليماني، الذي وصل إلى مطالبة البرلمان العراقي الولايات المتحدة بمغادرة العراق، ليتبين بعد ذلك أن المطالبة كانت انتصارا وهميا لتهدئة الرأي العام في "محور الممانعة" وداخليا. ثم كان الرد الأقوى بقصف إيران لطائرة ركاب مدنية "عن طريق الخطأ"، لتصبح أضحوكة، وتحول الخوف من رد الفعل إلى غضب لسقوط ضحايا مدنيين.
في ذات السياق الهزلي، نقل موقع ميدل ايست آي عن مصدر إماراتي، أن طهران هددت ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد
بضرب بلاده إذا قامت الولايات المتحدة بشن هجوم على إيران، وهو التهديد الذي سبق الإدانة الإماراتية لاغتيال زادة. وتماشيا مع هذه الحالة الهزلية، حذرت دولة الاحتلال "مجرميها" من زيارة الإمارات والبحرين تحسبا للرد الإيراني الذي قد يستهدفهم، كما رفعت درجة الاستعداد عند مقارّ بعثاتها الخارجية.
إذاً المتوقّع من الإيرانيين ليس رد فعل على نفس مستوى العملية، بل رفع الصوت بالتهديد، أو القيام بعمليات هامشية، أو القيام بإجراء يمكن التراجع عنه كرفع مستوى تخصيب اليورانيوم.
كان يمكن للمعتدين تنفيذ العملية في أي بلد خارج إيران، فما يتردد أن الراحل كان كثير السفر لأغراض عمله، لكن المهانة استدعت أن تكون الضربة داخل البلاد وليس خارجها، كما جرى مع سليماني
تجدر الإشارة إلى أن هذا الحديث لا يعني الرغبة في اشتعال الموقف، فالحقيقة أن المنطقة هي التي ستتضرر من أي اشتعال يقوم به أصحاب التصرفات الهوجاء كترامب أو نتنياهو، أو حلفائهما في المنطقة، لكنه حديث عن الظواهر الصوتية التي لا تقدر على ردع المعتدي قبل أن يشرع في اعتدائه، ولا تقدر على تأمين الملفات الأمنية الحساسة التي وصلت إلى عدو مفترض عام 2018 وكشفت دور زادة القيادي في
الملف النووي، كما لا تقدر على تأمين شخصية بتلك الأهمية داخل البلاد، فما هو حال من يعيش خارجها؟ وكان يمكن للمعتدين تنفيذ العملية في أي بلد خارج إيران، فما يتردد أن الراحل كان كثير السفر لأغراض عمله، لكن المهانة استدعت أن تكون الضربة داخل البلاد وليس خارجها، كما جرى مع سليماني.
الدرس الذي يحتاج الإيرانيون إلى استيعابه بعد قرابة عقد من التوترات في المنطقة، أن شعوب المنطقة كلها ليست لديها مشكلة مع الإيرانيين، ولا مع الشيعة، بل حصل الإشكال مع عمليات التوسع الإيراني في المنطقة، في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، أيضا البحرين. والحقيقة تشهد أن العرب كانوا ينظرون بإعزاز إلى الإيرانيين لدعمهم المقاومة في لبنان وفلسطين، ولوجود انتخابات في بلدهم، وهما سمتان تفتقر إليهما كل دول المنطقة تقريبا، لكن الدور الإيراني المسيء إلى الشعوب العربية، وعمليات التوسع المستندة إلى الدم والتخريب كما جرى في العراق وسوريا واليمن، جعل العاطفة نحو إيران تنقلب إلى سخط، وجعل أيضا التعاطف مع حركة مقاومة كحزب الله يتحول إلى نبذ له؛ وكان قد حاز قاعدة شعبية قلّ نظيرها.
لو كانت الأحوال كما كانت منذ قرابة عقد، لاندلعت التظاهرات في العواصم العربية تدعم الموقف الإيراني إزاء ما تواجهه من اعتداءات تمس سيادتها، وهي اعتداءات ما زالت تُغضبنا رغم سخطنا الشديد تجاه حركتها في المنطقة.
twitter.com/Sharifayman86