على غرار كبلر وكوبرنيكوس بقي فكر فرانسيس بيكون (1561- 1626) يتراوح بين القديم والجديد: هاجم أساليب التفكير والمناهج العلمية المتبعة آنذاك، لكنه بالمقابل احتفظ بجزء من إرث العصور الوسطى.
أول مشكلة حاول بيكون مواجهتها هي التخلص من المنهج الاستنباطي القائم على استنباط قضايا معينة من الفرضية، لكن هذه المعرفة تظل غير مؤكدة وهناك احتمال أن تدحض الاختبارات المستقبلية تلك الفرضية والنتائج المترتبة عليها.
وبرأيه، فشلت فلسفة العصور الوسطى لأنها كان تهتم بالمعرفة لذاتها، ولأن اهتمام الفلاسفة كان إقحام خصومهم، الأمر الذي جعل الفلسفة عبارة عن جدال بيزنطي.
انتقل بيكون إلى استراتيجية تهدف إلى منع المرء من الاكتفاء بالمعرفة الجاهزة ودفعه إلى البحث عن معرفة جديدة عبر تغيير المنهج القديم بآخر جديد، والعلم يجب أن يأخذ نهجا واقعيا لا فرضيا، لأن الهدف من المعرفة هو السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لأغراضنا.
لكن، كيف يمكن السيطرة على الطبيعة؟ ألا يتطلب ذلك أدوات وطرق تفكير جديدة؟ يجيب في كتابه الأورجانون الجديد:
لا يمكن السيطرة علـى الطبيعـة إلا بالخضـوع
لها، لا بالثورة ضدها، يجب أن نتعلم كيف نفهم
الطبيعة، كيف نبحث عن نماذج الأشياء
وصورها التي توجد فيها، والميادين التي يجب
أن تستعمل فيها.. إن ذلك هو ما سيمكننـا من
توقع نتائج أعمالنا، وبالتالـي التحكم بالضـرورة
التي تريد الطبيعة فرضها علينا.
لا يخفي بيكون تعلقه بالطبيعة، إنه عصر اكتشاف الطبيعة بدلا من التأمل، ولذلك كتب عن العلم الجديد أو الأداة الجديدة NOVUM ORGANUM الذي سيوفر لنا السلطة على الطبيعة وعن المجتمع الجديد NOVA ATLANTIS الذي سيصير بفضل العلم الجديد فردوسا أرضيا.
بهذه المعنى، ربط بيكون بين العلم والسياسة أو بين المسائل العلمية والمسائل السياسية، فليس لنا سوى العلم وسيلة للسيطرة على الطبيعة بهدف خلق المجتمع الجيد.
كتب بيكون عن دولة مثالية فاضلة لا على غرار مدينة أفلاطون الثابتة المستقرة، بل مدينة تتحرك وفق تاريخ تصاعدي، وهذا تطور علماني لأن الغاية الإنسانية لم تعد تتمثل في الآخرة السماوية بل في العالم الأرضي، وبذلك لم يعد التاريخ المقدس للخلاص هو جوهر التاريخ.
يتألف كتاب الأورجانون الجديد من قسمين:
1ـ قسم سلبي يتناول مواطن الخطأ والزلل في ذهن الإنسان.
2ـ قسم إيجابي يتناول قواعد التجريب.
وإذا كان القسم الثاني الإيجابي قد تجاوزه الزمن بسبب الاكتشافات العلمية، فإن القسم الأول السلبي ظل محافظا على قيمته العلمية لأنه يلقي الضوء على أخطاء البشر التي ما زالوا يقعون بها.
العوائق
الخطوة الأولى الرئيسية عند بيكون هي التخلص من العوائق التي منعت قيام العلوم خلال القرون الماضية، وأول خطوة يجب اتخاذها هي تطهير العقل من الأوهام، أي تخليصه من أية أبعاد ورؤى ميتافيزيقية أو أية تسريبات من الديانة المسيحية.
قسم بيكون الأوثان أو الأوهام إلى أربعة أقسام:
ـ أوثان القبيلة IDOLA TRIBUS وهي مفاهيم خاطئة تصدر عن الطبيعة البشرية، مثل التفكير الرغائبي والتفكير بأن المجردات هي أشياء واقعية، والقبول بالخبرة المباشرة من غير الغوص في أعماق الأشياء، بعبارة أخرى، هي الأوهام المشتركة بين الناس، أي ميلهم إلى التعميم وفرض النظام والاضطراد في الطبيعة.
ويقول بيكون في هذه النقطة:
الغلـط الكبيـر للحـواس أنهـا ترسم خطوط
الطبيعــة بـالإطـار المـرجعـي للإنســان لا
الإطار المرجعي للطبيعة، كما أن الحواس
البشرية قـاصرة عن إدراك كل شيء فـي
الطبيعة.
ـ أوثان الكهف IDOLA SPECUS وهي مفاهيم خاطئة تصدر عن المزاج الفريد لكل شخص وعن تربيته وخلفيته، إنها ميل الأفراد للنظر إلى الطبيعة كل من وجهة نظره الخاصة ومن كهفه الخاص.
ـ أوثان السوق IDOLA FORI وتخص التحريفات اللغوية، فالبشر يستخدمون تعابير مثل "القضاء والقدر" والمحرك الأول، كأنها واضحة ولها مدلولات واضحة، إنها طغيان الألفاظ والمناقشات اللفظية كما يحدث في السوق حيث يكثر اللغط والكلام الفارغ الخالي من أية قيمة.
وهذه الأوثان أو الأوهام هي الأخطر لأنها تتسلل إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء، ويميل الناس إلى قبول أفكار معينة ويسلمون بها على أنها حقيقة مطلقة.
ـ أوثان المسرح IDOLA THEATRI وهي مفاهيم خاطئة تصدر عن التعاليم الفلسفية، والمقصود بها سيطرة القدماء ونفوذهم مثلما تسيطر شخصيات الممثلين في المسرح على الجمهور.
بعد تحديده للعوائق، يتجه بيكون نحو تحديد الهدف الذي يسعى له، وهو توجيه العقل توجيها مناسبا، ويتم ذلك على ثلاث مراحل:
ـ تحديد الصور الحقيقية للطبيعة، مثل الحرارة، حيث يجب البحث في آثارها وقوانينها لا في جوهرها كما فعل القدماء، لأن الحرارة لا جوهر لها.
ـ البحث في ما يحدث للجسم عندما يتحرك أو يتحول، مثل تحول الماء إلى بخار بواسطة الحرارة.
ـ البحث في تركيب الجسم الساكن لمعرفة ما يقبل من الكيفيات، فالماء مثلا لا يقبل صورة التمثال في حين يقبلها الحجر.
الهجوم على أرسطو
بدأ بيكون بكسر التابوهات الأرسطية في عصره حيث كان هناك شبه إجماع على فلسفة أرسطو العلمية.
يجمل بيكون موقفه من أرسطو بالقول إن هناك نوعان من الذين تناولوا العلوم: أهل التجربة وأهل الاعتقاد، أهل التجربة أشبه بالنمل يجمعون ويستعملون فحسب، وأهل الاعتقاد أشبه بالعناكب تغزل نسيجها من ذاتها.
كان المنطق الأرسطي هو الأداة الرئيسية التي استخدمها القدماء في تأسيس علومهم ونظرياتهم، ومن ثم كان نقد هذا المنطق هي الخطوة الأولى في عملية تطهير الأرض لبناء المنهج الجديد.
يتألف القياس الأرسطي من قضايا والقضايا من ألفاظ والألفاظ تشير إلى أفكار، وإذا كانت هذه الأفكار مختلطة في الذهن يكون القياس كله قائما على غير أساس.
ولا يتوقف هجوم بيكون على القياس الأرسطي، بل يتعداه إلى نقد الاستقراء الأرسطي، لأن هذا الاستقراء يئول في النهاية إلى قياس مقدمته الكبرى التي هي نتاج عملية إحصاء يقوم على الأمثلة الإيجابية فقط، والأمثلة الإيجابية من دون الأمثلة السلبية لا تؤدي إلى اليقين.
والاستقراء كما يريده بيكون، هو تحليل الطبيعة بواسطة عمليات نبذ واستبعاد مناسبة، وبعد عدد كاف من السوالب يصل إلى استنتاج الأمثلة الموجبة.
بعبارة أخرى، يتم الاستقراء عبر عمليتين: لحظة العزل ولحظة التأكيد الإيجابي، الأولى تراعي قواعد ثلاث، عندما يحضر السبب تحضر النتيجة، وعندما يغيب السبب تغيب النتيجة، وعندما يتغير السبب تتغير النتيجة، أما لحظة التأكيد الإيجابي، فتعتمد على خطوات كثيرة، أهمها:
ـ تنويع التجربة بتغيير المواد وكمياتها وخصائصها.
ـ تكرار التجربة بإجراء تجارب جديدة.
ـ نقل التجربة من الطبيعة إلى الصناعة والفن.
ـ قلب التجربة بطريقة معاكسة.
ـ جمع التجربة من خلال زيادة في فاعلية مادة ما بالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى.
وبعد إجراء التجارب نقوم بتوزيعها في قوائم ثلاث:
ـ قائمة الحضور ونسجل فيها كل الأحوال التي تظهر في الظاهرة التي ندرسها.
ـ قائمة الغياب وفيها نسجل الأحوال التي لا توجد فيها الظاهرة المدروسة.
ـ قائمة المقارنة وفيها نسجل كل الأحوال التي تتغير فيها طبيعة ما كلما تغيرت طبيعة أخرى.
مثالب المنهج
ما يؤخذ على بيكون، أنه بنى منهجه التجريبي على التأمل والتفكير، لا على الممارسة العملية للبحث العلمي، فمنهجه التجريبي يعلو على العقل ويفرض نفسه عليه من الخارج.
كما يؤخذ عليه تجاهله لدور التصورات الرياضية في المنهج الاستقرائي، ذلك أن استخدام المناهج الرياضية في المباحث الطبيعية يخبرنا بنتائج تجارب بطريق صوري لم نقم بها بعد، وهذا ما قام به غاليلو فيما بعد.
ويؤخذ على بيكون أيضا أنه لم يكن مطلعا على الاكتشافات العلمية في عصره، فقد رفض نظرية كوبرنيكوس وتجاهل نظرية كبلر ولم يعرف أبحاث جلبرت ولم يعرف شيئا عن فيساليوس رائد التشريح آنذاك.
وأخيرا، فإن تصنيفه للعلوم واه، حين قسمها إلى ثلاثة أقسام: التاريخ وملكته الذاكرة، والأدب وملكته المخيلة، والفلسفة وملكتها العقل.
وليس صحيحا أن التاريخ يعتمد فقط على ملكة الذاكرة، بل لا بد فيه من العقل والمخيلة، وكذلك الأمر في البحث في الطبيعة، فهو لا يعتمد العقل وحده، فللمخيلة دور عظيم.
وعلى الرغم من هذا النقد، فإنه يجب أن يتم اخذ فكر بيكون ضمن سياقه التاريخي، وليس انتقاده بأثر رجعي، انتقادات في ضوء التقدم الهائل للعلوم.
ويحمد لبيكون أنه أدرك أهمية الرفض والاستبعاد، واستبق وجهة النظر الحديثة القائلة بأن على الباحث ألا يكتفي بتأييد فرضيته، بل ينبغي أن يلتمس البيانات التي من شأنها أن تفند هذه الفرضية، حيث أدرك أهمية الشاهد السلبي في المنهج العلمي، وهو في ذلك يعد مستبقا لفكرة التكذيب عند كارل بوبر.
ويعطى لبيكون الفضل في إصراره على الفصل بين العلم واللاهوت، فحذر من الخلط بين الوحي الإلهي والعلم البشري.
ولا يعني ذلك أن بيكون كان مناهضا للمسيحية، بل على العكس، فقد كان مؤمنا مواظبا على قراءة الكتاب المقدس، وقد أوحت قراءته لسفر التكوين بفكرة استعادة الإنسان لسيادته على الطبيعة.