حالة من الذهول والحزن عاشتها السّاحة
الثقافية التونسية مع الرحيل المفاجئ للكاتب والمفكّر التونسي كمال الزغباني عن 55
عاما بعد تعرّضه لأزمة قلبيّة حادّة.
الثلاثاء 15 سبتمبر 2020 شُيِع إلى
مثواه الأخير وإذا بالزّمن توقّف عندها: إلى اليوم، إلى اللّحظة ما من حدث يطغى
على مواقع التواصل الاجتماعي غير رحيل كمال الزغباني أو "ملك زغبانيا" كما يحلو للبعض مناداته. رحيل موجع أكثر من الوجع في حدّ ذاته، ذكّرنا بثلة من
المفكرين التونسيين الذين لم يمض على رحيلهم إلاّ أشهرَ قليلة وهم: فيصل الكشو، ومصطفى كمال فرحات، ومحمد نجيب عبد المولى، وعلي لجنف.
لقد فارق كمال الزّغباني الحياة وهو في
"انتظار الحياة".. يروّض السعادة... ربما لم تكن "ماكينة
السعادة" التي ظل يكتبها لعشر سنوات حاضرة في حياته إلاّ عنوانا لأحد مؤلفاته
أو مبحثا فلسفيا ولكن كان سعيدا بمملكة شيدها بنفسه أو لربّما قد نجح في إيهامنا
فقط بهذه السّعادة من خلال تعاليقه السّاخرة ومنشوراته التي تعبث بواقع
"بوهيمقراطي"...ففي هذا الواقع ليست السعادة إلاّ وهما لا يجب الرّكض
خلفه... كما ينصح دائما روائيُّنا قرّاءه.
كمال الزّغباني: رحيل قبل الأوان
رحل كمال الزغباني وترك روايةً لم
تكتمل بعد، روايةً كان قد سلّمها للكاتب ناجي الخشناوي لمراجعتها ورُبّما ترك
مشاريع أخرى لم تكتمل، ربما هي مخفية في زاوية من زوايا مملكته، أو بين مذكراته أو
دفاتره، أو ربما هي مسودّات دسّها في آخر رواية كان يقرأها قبل أن يغازله قلبه
اشتياقا لأرض غير أرضنا. بالنّسبة لزميله في الدراسة الثانوية والجامعة الكاتب
وأستاذ علم الاجتماع نور الدين العلوي: "روائي لم يكمل مشروعه.. فهو ليس كاتب
النص الواحد.. ولا شك أنّ مشروعه فيه مخطوطات... فهو ليس مغرما بالنشر وتعداد
العناوين.." ويواصل العلوي في حديثه عن مؤلّفات صديقه الرّاحل: "لم نكن
على وفاق في مسائل كثيرة. لكن التقدير العالي كان متبادلا.. كان كلما التقينا
اتخذني تلميذه وتعالم وكان هذا ينفرني... لكن روايته الأولى (الكومار الذهبي) تحفة
فنية ونص لا يموت... خسرنا كاتبا.. خسرنا نصا... خسرت مدينتي مثقفا مختلفا...
لروحك السلام ورحمك الله ".
أبّنته وزارة الشؤون الثقافية
التّونسية كأيّ تأبين يصدر رسميا من مؤسّسة حكومية تحترم دينيا حدث الموت وأداء
الواجب ولا تأبه، طبعا، لسيرة المفكّر حياةً أو موتا. أمّا بيت الرّواية التّونسية
فعزمت الاحتفاء بالمفكّر من خلال ندوة أدبية وفكرية تنتظم قريبا ومن المتوقّع أن
تشهد النّدوة مشاركة كتاب وفنانين وأصدقاء مقربين له لتقديم شهادات ومقاربات
نقدية.
ولكن من فاته الاختلاط بكمال الزغباني
في حياته فلا يجب أن يبحث عنه بين رفوف التأبينات الرّسمية أو في أيّ مبادرة لملء
دفتر الأنشطة بنشاط آنيّ، ولا حتى مقالا صحفيا يستعرض سيرته من تاريخ الميلاد إلى
تاريخ الوفاة، فمبدعنا ثائر بالفطرة على كل القواعد والإلزامات الآنيّة، فقط لنبحث
عن كمال الزغباني بين سطور رفاقه ومنشوراتهم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي،
نزيف من الذكريات تفجّر عشقا ووفاءً لمفكرين ومثقفين عاصروه فكيف ودّعوه؟ أو لنقل
كيف نسجوا سيرته بخيوط ذاكرة تقاسموها معه؟
المفكر بين ثنائية الحياة والموت
لن أقف عند "أسطورة" الأديب
الرّوسي إيفان بونين وهو يتكلّم عن حالة الإنسان: "كم عددها في الأرض هذي
العظام وهذي الجماجم؟ إن كل الماضي البشري وكل التأريخ الإنساني حشود غفيرة من
الموتى! وسيأتي يوم سأنضم فيه الى جموعهم. وسأبث أنا أيضاً الرعب بعظامي وجثتي في
مخيلة الأحياء، كما فعلت تلك الحشود الغفيرة من الجيوش التي ستغرق الأرض يوم
الحشر.. ومع ذلك سوف يعيش أحياء جدد بأحلامهم عنا نحن الموتى، وعن حياتنا القديمة
وزماننا القديم الذي سوف يبدو لهم رائعاً، وسعيداً، واسطورياً." ولا تعنيني
تأويلات رفض سارتر لجائزة نوبل في بداية الستينات ولا حتى رفضه لتكريم جوقة الشرف
في منتصف الأربعينات. ولن أكرٍّر قول هايدغر: "إنّ الكائن الموجود منذ أن يعي
نفسه يصبح مرشّحا الموت وتبدأ حياته تنمو في ظلّ حداده وهذا ما يجعل الكائن البشري
معدا للموت غائصا في لجّة اليأس يبحث عن معنى الحياة التي تصب في فجوة الموت
المرعبة." كل ذلك لن يستوقفني مجدّدا لأنّ كمال الزغباني قبل أنّ تستقلّ روحه
عن جسده ورّثنا مفهومه للموت. ففي منشور فيسبوكي كتب التّالي: "أمّا بخصوص
العلاقة بما يسمّى الموت فإنّي أودّ إعلامكم بالتّالي: لن أموت لن أسمح للدود والتّراب
بالتهام جسدي (سأرتّب الأمور على نحو مغاير تكتشفونه في اللّحظة المناسبة ولا لأيّ
كان بالوقوف أمام شاهدة عليها اسمي بصيغة كان أو إحدى أخواتها..." هذا النّص
تداولته طالبته أماني زميت قائلة: "كمال سأحتفل ب “موتك" لأنه استمرار
لحياتك السرمدية... وجع قد يمر لكن الذكرى ستنبض ابدا".
ودوّنت الكاتبة التُّونسية نورة عبيد
التالي: "كتب رجب نصراوي أن كمال الزغباني قال إننا ننام لنستعيد حالة ما قبل حضورنا في العالم، حالة وجودنا في
رحم الأم حيث الدفء والظلمة وغياب كل إثارة. إن العالم لا يملكنا بصفة كاملة لأننا
نقضي ثلث زمن حياتنا نياما أي كأننا في الرحم لم نكن بعد قد ولدنا (فرويد). إنها
الرغبة في العودة إلى رحم الأم واستعادة النرجسية البدائية الضائعة والاشتهاء
المحرم للأم البدائية المفقودة... إنه كمال تلميذي وزميلي وصديقي الذي عاد إلى
الرحم حتى لا يولد أبدا"
قصته مع مملكة زغبانيا
مملكة زغبانيا وطن داخل وطن. بدأت
قصّتها مع قطعة أرض خلْف منزله انتبه الكاتب والمفكّر الرّاحل عنّا إلى وجودها
بالصّدفة فحوّلها إلى مملكة أسّس من خلالها مفهومة لدولته الفاضلة. ففي زغبانيا،
يحقّق اكتفاءه الذاتي ويضمن استقلاليته على جميع الأصعدة. فقام بزرعها ووفّر من
خلالها كل احتياجاته اليومية وجعل منها نموذجا يَعتبِر منه الفرد في ضمان
استمراريته دون الحاجة للآخر. ثمّ أصبحت تدريجيا مملكة الزغبانيا فضاءً للتأمل
والتساؤل الوجودي لتتحول إلى ثيمة أساسية في منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي
ووطنه الصغير الهادئ الذي يهرب إليه كلما ضاق به الوطن الكبير… يمارس الفلاحة كما
التفكير بدقة وتأمّل عميق ويستخرج من الأرض زهورها كما يستخرج شخوص رواياته
ونظرياته وتصوراته للمنطق. أهمية هذا الفضاء في سيرة كمال الزّغباني جعلت أستاذ
الفلسفة في الجامعة التّونسية صالح مصباح، يكتفي بنشر آخر صور لكمال الزغباني صورة
وهو يتأمّل زغبانيا وكتبت صفحة "منشورات" المتابعة لإنتاجات المثقفين
والمفكرين بتداولها أيضا لهذه الصورة: "ربما زرع الفكرة شجرة.. كان يردد
الزغبانيا دولة بأسرها.. بل يصاحبها وكأنها خليلته وكأنه منها.. لربما كانت وصيته لا تهملوا مملكة الزغبانيا..
لا تتركوا هذه الزهور تذبل أو لربما كانت وصيته اتركوها بِكرا حرة متحررة
منكم...وداعا كمال الزغباني لا بل لتحيا بيننا أزلا."
يوميات الكاتب في مملكة زغبانيا
تَمرُّدٌ على الواقع ...هو الثائر الهادئ، الهادئ الثائر فجأة... "مملكة
زغبانيا" وشعارها: "من الطبيعة نبدأ والى الطبيعة نعود.".. وهذا
جزء من لوحة تُشكّل حياة كمال الزغباني وعالمه الذي يعود من خلاله إلى مفهوم
الإنسان الحرّ بعيدا عن تفاهات وسخافات السياسة وتَسلُّط إعلام مرئي يُفقّر العقول
ويَجعلها تنعم بالجهل. والرّاحل كان قد قاطع الفيسبوك في الأشهر الأخيرة من حياته
بسبب ضحالة مستوى ما تقدمه القنوات التلفزية.
كمال الزغباني والجامعة
يقول المفكّر والمترجم محمد محجوب وهو
يحدّثنا عن لقائه الأوّل بكمال الزغباني: "عرفته في بداية التسعينات وهو يجري
شفاهيا مناظرة التبريز مع منير الكشو وعبد العزيز العيادي تعجبت عندما قال لي بعد
ذلك أنّه تخصّص في المنطق وشرع يدرس في قسم الفلسفة بصفاقس وتعجبت أكثر عندما شاءت
الظروف أن أعين رئيس لجنة مناقشة رسالة الدكتوراه حول دولوز ولم أعد أعجب من شيء
عندما وجدته روائيا ينتج العالم في سردياته الجميلة. فهمت يومها أن الذي يجمع بينه
وبين رموز المنطق وترميزه وبين تعدد وجوه دولوز التي تكاد لا تحصى وبين حكايات
الزمان التي لا تنتهي لا بد أن يكون فنانا مكتملا. خالطته ولم أختلط به قرأته ولم
أُحاوره، احترمته ولم أجد الفرصة لأقول له غادرنا إليهم وهو يقول المرة الألف أن
الموت يسكننا لأن الحياة قُدّت من موت ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. وداعا
كمال."
أمّا الباحثة التونسية هدى الكافي
فتقول وهي تستحضر بعض الذكريات التي جمعتهما سويّا في معهد الطاهر الحداد الخاص:
"عندما كنت تعد أبحاثك في الجامعة، كنت خجولا، لا ترفع عيناك حين تتكلم، كنت
تنظر دائما من تحت نظّاراتك السميكة، استمت في البحث واخترت المنطق آن ذاك، لم
تختر المنطق لأنه يناسب طريقة تفكيرك وإنما اخترته ولم تختره حقا، كان الطريق
الوحيدة الموصلة إلى مكان في الجامعة."
كمال الزّغباني اليساريّ
ذكّرتنا الباحثة هدى الكافي في منشورها
بتجربة صاحب "انتظار الحياة" مع اليسار وقالت: "بقيت متشبثا
باليسار لا لكونه يعبد كتب الأموات و طموحهم الساذج للثورة بل بقيت يساريا، لأنك
فهمت دلوز، فهمت إمكان بناء عوالم ممكنة يقصر ذهن السياسيين عن إدراكها، ربما
التجأت إلى الرواية والأدب، لتجّسد بعض ممكنات الوجود الممتنعة عن ادراك العامة
وحتى الخاصة، ووجدت في الفيسبوك، قليلا مما يتيحه الافتراضي من تجويدexistentialisation لبعض الممكن، لكنك يئست
من ممكنه الخاوي، وسخطت عديد المرات على تفاهته، ربما لم تفهم جيدا أن التفاهة
بدورها ممكن وجود، أصبت بخيبة أمل مثلنا جميعا، أولا في الثورة، ثم فيما
تبعها".
يستحضر الكاتب والباحث عيسى الجبالي إحدى
المواقف لكمال الزغباني وهو يستلم جائزة روايته: "ماكينة السعادة" في
معرض تونس الدّولي للكتاب فيقول: "لمّا صعد لتسلم جائزته، كان يرتدي قميصا
عليه عبارة "مانيش مسامح". كان يساريا بحق. وكان كاتبا رفيعا. لذلك
اختاره الموت.. فخطفه باكرا. عندما يرحل الأنقياء." ويتساءل عيسى الجبالي:
"لماذا يعمّر الأغبياء طويلا؟! كم رواية جميلة ماتت بموت كمال؟ كم مبدأ كان
في حاجة إلى يساري حقيقي لينصره، فخذلته حياة ظل ينتظرها منذ أمد بعيد؟ لماذا يرحل
الأصفياء؟ ليفسحوا المجال للمغشوشين كي يملؤوا حياتنا بذاءة وكدرا؟!"
"أوجاع الخيبات"
و"صناعة الزّيف"
كتبت الباحثة والأكاديميّة والدُّكتورة
سلوى السعداوي: "يتألّم الصادقون بشدّة ويعجّلون برحيلهم بعد أن فاض الوعي
فانقلب حزنا عميقا، ولم يعد التنفّس الصناعيّ حلاّ يقيهم أوجاع الخيبات.. رحم الله
كمال الزغباني، جئت إلى الحياة ثمّ رحلت مختلفا استثنائيّا".
وقالت الشاعرة التونسية آمال
موسى:" كان حقيقيا وعاشقا للظل ومترفعا عن الأضواء المتورطة في صناعة
الزيف." وأضافت: "مع الأسف لم أعرفه إنسانا بالشكل الذي يسمح لي
بالحديث.. ولكن يكفي أنه كتب "مكينة السعادة" ويكفي أنه وضع هذا
العنوان. ما يحز في نفسي هو أن يعيش بيننا مبدعون ونهملهم ونجعلهم يعانون بؤس
البيئة الثقافية وفقر الجمال المدقع ثم يرحلون في صمت.. هذه البلاد لا تحبّ
مبدعيها".
وكتب خليل قويعة: "صديقنا وزميلنا
كمال الزّغباني، أستاذ الفلسفة والمنطق والرّوائيّ الثّائر... كنت وهجًا من الفكر
المتوثّب تقاوم وجع الوجود وتفكّر في السّعادة، كنت بريقا من السّؤال الوقّاد لا
ينطفئ، إيذانا بعصر الحلم والولادة الأبديّة... رحمك الله."
ربما لم ينتهِ بعد الكلام عن سيرة ٍ
مبدع ٍ حرٍّ.. وبَدل حديثُ النِّهايات، لنَنفتح على عالم كمال الزغباني ونُمدِّد
معه الزمن بتدوينته الفيسبوكيّة ذات الحجر الصحّي لمّا قال: "حين تقلق كثيرا من
الحجر ويضيق بك العالم تذكّر بطل "لاعب الشطرنج" لستيفان تسفايغ. ذاك
الذي قضّى مدّة عزل كلّيّ في غرفة صغيرة ولم ينقذ نفسه من جنون العزلة إلاّ بورقات
قديمة من مجلّة شطرنج. ظلّ يمارس اللعبة بمفرده حتّى صار لا يغلب فيها... إلى درجة
أنّه انتصر بسهولة على بطل العالم فيها خلال رحلة بحريّة...". وهكذا بالضبط
انتصر صاحب "انتظار الحياة" على الموت كلاعب شطرنج... يُدمِّر الموت
الأجساد ولا يُدمِّر الأرواح.