في ديوانه دوائر الجنون، يعتمد الشّاعر الأردني عبد الكريم أبو الشّيح الذي سبق له أن أصدر ديوانين، هما: إيّاك أعني 2003، وكومة أحلام 2007، اللغة المشوشة والمضطربة، لتجسّد اللغة شكلًا لحالة التشظي وقلق الأنا الشّاعرة، ولعلّ إشارته في العنوان ما يحيلنا إلى ذلك.
ولعلّ أوّل ما يشدّ انتباه القارئ عنوان دوائر الجنون، إذ إنّ العنوان يستدعي تأمّلًا عميقًا؛ كون الجنون حالة مرضيّة بيولوجيّة، وما في ذلك من تأكيد الشّاعر للبعد النّفسيّ، من هنا، يقوم العنوان على ثنائيّة العقل والجنون.
عادةً ما يتم الخلط بين الأنا الشّاعرة القابعة في فضاء النّص الشّعريّ والشّاعر، فالحديث هنا عن الأنا الشّاعرة بخلاف ما هو عليه الشّاعر في حياته اليوميّة والواقعيّة، هذا الأخير شيء، والأنا الشّاعرة شيء آخر مختلف تمامًا، لذا وجب الانتباه.
على أنّه في المقابل، لا ينبغي أن تفوتنا الملاحظة، أن عبد الكريم أبو الشيح في بعض الأحايين، يشير إلى اسمه الصّريح عبد الكريم في ثنايا نصوصه الشّعريّة، دون مواربة، ولعلّ هذه الإشارة إلى اسمه لم تكن بالإشارة المجانيّة العشوائيّة أو بالمصادفة العابرة، بقدر ما تؤكد الصّلة بين سيرة الشّاعر الذّاتيّة والقصيدة.
وإنّ السّؤال الذي يتبادر هو: ما الذي يعنيه الشّاعر بهذا العنوان؟ فهو عنوان قد يذكرنا بميشال فوكو، مؤلف كتاب تاريخ الجنون، وما سمّاه بجنون العباقرة، غير أنّ لأبي الشّيح هدفًا في العنوان مختلفًا عمّا أراده فوكو.
إنّ القارئ يجد نفسه في نصوص دوائر الجنون أمام أنا شاعرة تبدو أنّها موغلة في ذاتها، ومستغرقة في الهذيان كما لو أنّها مصابة بالجنون، ومن يقرأ نصّ أبي الشيح بتأنٍ تستوقفه وفرة التعابير المجازيّة؛ نظرًا لما يتخللها من تداعيّات نفسيّة، ولعلّ المقاربة الأدبيّة للمسألة تبدو أقرب إلى أسلوب الكتابة النفسيّة، في الاستسلام لمنطق الحلم والاهتمام بالجنون كون النّفس تتحرر من سلطة الواقع.
يمثل دوائر الجنون لأبي الشّيح واحدًا من نصوص شعريّة عدّة ما يمكن تسميته بخطاب الجنون، والملاحظ أنّ الشّاعر يركّز على أن يكون نصّه الشّعري نوعًا من المفارقة، يقول في قصيدة الجنون:
هو العقلُ إذ يلبسُ النور فيض الظلام
ويسكن مؤقَ غزالتكَ النّافرةْ
وإذ تخلعُ الذاكرةْ،
ملابسَها عنْ فلزِّ النّبوءةِ تحتَ ارتجافِ الكلامْ
وتبحرُ في سلسبيل الضّياءِ
إلى بقعةٍ سافرةْ"
تعقيبًا على النصّ المطروح، فإن إيثار أبي الشيح الجنون على العقل إيثار له ما يبرره ويفسّره، ففي الجنون غياب سلطان العقل، وتحرر من القيود المتسلطة عليه.
وفي قصيدة "العشق"، يترك أبو الشيح لتداعيّات النّفس وخواطر الرّوح التدفق في اتجاه أقرب ما يكون من التّصوف، إذ يطلّ علينا بوجده الصّوفي المتقد، المحمّل بالمعنى الرّوحانيّ، وما من قارئ تتاح له فرصة الاطلاع على نصوص (أبو الشيح)، إلّا ويتوصّل إلى حرص الشّاعر على ترسيخ الرّمز والغموض، يقول مثلًا في قصيدة "حنين":
"حنينٌ إلى الائتلاف،
وعصفورةٌ تغزلُ العطرَ فوق الجناح"
إنّ الذي يلفت النّظر في نصوص عبد الكريم أبو الشيح، أنّها تنثال انثيالًا من الذّاكرة، الأمر الذي يجعلها قريبة من الهذيان، كما لو كانت الأنا الشّاعرة مصابة بداء التّوحد، بدليل أنّ كثيرًا ما تنحو نصوصه الشّعريّة لتراكيب غير مفهومة، حيث يقول في قصيدة "الليل:
"وحدكَ مَن يدخلُ للبعد الثالث للأشياء
ويقرأ كلّ تفاصيل الأشكال
وحدك مَنْ..
لكنْ هيهات.."
وفي نص آخر موسوم بـ "تقديم"، نقف عند أنا شاعرة تعاني من حالة نفسيّة، تشبه العصاب، حيث المتوالية اللغويّة يهيمن عليها طابع اللاتواصل مع المتلقي العادي:
"رأسٌ واحدةٌ تتمطّى فوق الكتفين،
ووجوهٌ عدّة.
رأسٌ.. ووجوهٌ،
وصداعٌ يتمترسُ بين العينين"
لعلّ أبا الشيح يستمرئ هذا النّسيج من التّداعيات والرّؤى والكوابيس في الكتابة، لذلك يصدق عليها ما يوحي به عنوان الديوان ويومئ إليه، في حرصه إلقاء الضوء على جانب من جوانب رؤية الأنا الشّاعرة المشوّهة والمضطربة. فالتسمية بحد ذاتها جاءت محمّلة برؤية أشبه ما تكون بالضّبابيّة.
وتتكرر مثل هذه الأجواء الموغلة بالضبابية والرؤية المتوتّرة في نصوص شعريّة أخرى بعنوان: وجه أوّل، ووجه ثانٍ، ووجه ثالث، ونهاية.
إنّ المتأمّل في تراكيب وتعابير أبي الشّيح، يلاحظ أنّه أمام شيء محذوف وناقص، ومردّ ذلك راجع لما تعانيه الأنا الشّاعرة من حالة القلق، المتمثل بالتشظي والانشطار بين عالمين: عالم الوهم والخيال، وعالم الحقيقة والواقع.
إضافة إلى ما سبق، تتداعى الأنا الشّاعرة في نصوص دوائر الجنون من خلال استدعاء النّص الغائب، وعلى سبيل التمثيل، يقول:
"وأنا ذا هنا/عالقٌ/ قفا نبكِ قليلاً/مَنْ قَضَى/ بينَ سِقْطِ اللوى/ وَالجمارْ"
إن للوحدة دور في تصعيد حدّة قلق الأنا الشّاعرة وتناميها في النّص، لتبدو وكأنّها تخاطب شخصًا آخر، وعلى ذلك، تنشطر إلى شطرين: شطر الواقع والحقيقة، وشطر الوهم والخيال:
"ها أنت وحدكَ فوق خارطة الورقْ
جسدًا تشظّى واحترقْ"
مثل هذا المنطوق، في ظنّي، يخفي في ثناياه ما لم يشر إليه الشّاعر، إذ يمثّل حالة من الفصام والقطيعة، وإحساس الأنا وشعورها بعمق التشظي.
ونخلص من هذا كلّه إلى تأكيد حقيقة؛ في أنّ الأنا الشّاعرة في نصوص دوائر الجنون ظهرت في صور متعددة: قلقة، وحزينة، ووحيدة، وتتميز بالتّفكك والاضطراب، ذلك من خلال اللغة.
باحث وناقد مستقل- الأردن.