قضايا وآراء

الأفغاني وخاطراته

1300x600

لم يتوقَّف نشر كتابات السيد جمال الدين الأفغاني طيلة القرن العشرين، ليس لسابق فضله على الشرق بأجمعه فحسب؛ بل لشدَّة حاجة الأمة كذلك إلى ثمار قريحته، وهي ما زالت بعد تُراوح مكانها منذ فارقها مُنتقِلا إلى جوار ربه قبل ما يقرُب من القرن وربع القرن. فكأنها ظلَّت طوال هذه المدَّة الكبيسة حبيسة نفس الأسئلة (بفعل فاعِل؟!)، وغير قادرة على تجاوز جمهرة المصائب والنوازِل التي بحَّ صوته، هو وتلامذته من بعده، وعلى رأسهم الأستاذ الإمام محمد عبده؛ في التنبيه عليها والتحذير منها.

لكن مع اقتراب ستينيات القرن العشرين من نهايتها، كان أكثر كتابات السيد رحمه الله قد سقط من الذاكرة، فلم يَعُد المثقَّفون يذكرون سوى رسالته في الرد على أصحاب المذهب الدهري، ومقالات صحيفته الصاخِبة: "العروة الوثقى"؛ حتى احتلَّ العملان آنفا الذكر مكانة "الآثار الكاملة" للسيد، واختُزِلَ نتاجه فيهما. ومن ثم، كان جمع الدكتور محمد عمارة لـ"الأعمال الكاملة" للسيد - آنذاك - خطوة مهمة لإعادة قراءة ميراثه كله. وهي الخطوة التي اكتسبت أهميتها من تصاعُد مد ما سُمي بـ"الصحوة الإسلاميَّة" بعد هزيمة عام 1967م، وطوال سبعينيات القرن العشرين، وصولا إلى انتصار الثورة الإسلاميَّة في إيران (1979م)؛ الذي أعاد الأفغاني ونشاطه وفكره إلى الصدارة مرَّة أخرى، ليستلهمه جمهرة اليسار العربي المتحول إلى الإسلام (أمثال محمد عمارة وجلال كشك وعلي الوردي... إلخ) طيلة السبعينيات والثمانينيات، خصوصا في الرد على مطاعِن من قبسوا روح بعض الكتابات الاستشراقيَّة المُبغِضة للسيد، أمثال لويس عوض.

وقد ظلَّت طبعة محمد عمارة المنقوصة، والمعيبة(1) لأعمال السيد جمال الدين هي الطبعة المعتمدة في الوسط الثقافي، على ما فيها من عوار؛ حتى ظهرت طبعة سيد هادي خسرو شاهي(2) قبل عقدين تقريبا، في قم أولا ثم في القاهرة. وقد كانت هي الطبعة التي تعرَّف فيها كاتب هذه السطور - وأكثر جيله - على أدق ملامح السيد جمال الدين قدَّس الله سره.. طبعة أوفى وأشمل، مقارنة بطبعة عمارة؛ حتى إن كاتب هذه السطور قد قصد مكتب العلَّامة خسرو شاهي في قُم، عام 2015م؛ طالبا الإذن بنشرها، بعد أن كان قد مرَّ على نفادها ما يزيد على عقد من الزمان.

ولما كان كاتب هذه السطور ناشرا وباحثا شديد العناية هو اﻵخر بتراث السيد جمال الدين، ومطَّلِعا على جمهرة ما كتب عنه بالعربيَّة والإنكليزيَّة والفارسيَّة؛ فقد شرعنا في عمليَّة مراجعة وافية لمطابقة نصوص الآثار الكاملة للسيد، التي جمعها العلَّامة خسرو شاهي رحمه الله؛ على أصولها التي جعل الإنترنت من توفُّر الكثير منها أمرا ليس بالعسير.

وفي حين كان اعتماد خسرو شاهي، ومن قبله محمد عمارة؛ على مقتنيات المكتبات العامة، وأحيانا الخاصة؛ فقد زوَّدت المجموعات الجديدة على شبكة الإنترنت كاتب هذه السطور بكثير من أصول كتابات السيد، ناهيك عمَّا اقتنيناه من بائعي الكتب القديمة، أو وفقنا لتصويره من بعض المكتبات الجامعيَّة، كما هو الحال مع الطبعة الأصليَّة للكتاب المقصود في مقالنا هذا: "خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني"، التي اعتنى بها تلميذه محمد باشا المخزومي.

وُلد المخزومي باشا في بيروت سنة 1868م، وتعلَّم فيها وفي القاهرة. واشتغل بالكتابة، وأنشأ في القاهرة "مجلة الرياض المصرية". وقد زار أوروبا، وأقام فترة في الآستانة؛ حيث شغل عضوية "مجلس المعارف"، وتولى التدريس في المدرسة السلطانية (مكتب شاهاني)، وأصدر "جريدة البيان"، ثم "جريدة المساواة"، غير أن السلطة العثمانية أمرت بتعطيلهما بعد فترة قصيرة من إعلان الدستور العثماني (1908م). ثم انتقل إلى حلب مُفتشا لأوقافها، قبل أن يعود إلى بيروت عام 1913م للمشاركة في الحركة الإصلاحية فور انطلاقها، مروِّجا لأفكارها، ومدافعا عن رجالها. وقد توفي سنة 1931م.

وكان المخزومي باشا قد صرف عنايتَهُ إلى تدوين أحاديث السيد جمال الدين، وتقييد ما يتكلم فيه من موضوعات، وما يطرحه من آراء ونظرات؛ تقييدا أمينا يلتزم فيه نصَّ عبارة السيد بغير زيادة أو نقصان. فاجتمعت لديه، على مدار خمس سنوات (1892-1897م)، لازم فيها السيد؛ المادة التي تؤلِّف هذا الكتاب، الذي شرع في تحريره في حياة السيد، وسمَّاه: "جمال الدين الأفغاني في البلاط السلطاني". غير أن السيد نفر من هذا العنوان غاية النفور؛ قائلا: "إن هذا العنوان ليس بهذا المقال بطبيق؛ قل: خاطرات، ولا تزد".

وقد فرغ المخزومي من تحرير هذا الكتاب في إسطنبول زمان السلطان عبد الحميد، إلا أن طباعته قد تأخرت نحو ثلاثة عقود، احترازا وخوفا؛ حتى صدر للمرة الأولى في بيروت سنة 1349هـ ق/ 1931م، أي بعد وفاة السيد بثلاثة عقود؛ وهو التأخير الذي يَقُصُّ المخزومي علينا خبره، والأسباب الداعية إليه؛ في مقدمته على الكتاب.

ولا تتناول هذه الخاطرات موضوعا واحدا ينتظم مسائل وقضايا يُفضي بعضُها إلى بعض، ولكنها فصولٌ متفرقة تتناول أشتاتا من الموضوعات في الدين والتاريخ والسياسة والأخلاق والفلسفة والكلام والتربية. فترى السيِّد ينتقل فيها من الحديث عن خلاف أهل الأديان، إلى الحديث عن الأحزاب والسياسة في الشرق، ومن فضيلة الصبر والثبات إلى تنازع الفناء وتوحش الإنسان، ومن تعاليم القرآن وأصول الحكومة الشورية إلى مذهب النشوء والارتقاء، ومن السنة والشيعة إلى الاشتراكية والعدالة والاجتماعية. وذلك كله في أسلوب يفيض صدقا، وبيان يتجسَّد فيه الإخلاص والتجرُّد.

لقد كانت تحدونا الرغبة في أن تأتي طبعتنا لآثار السيد مُطابِقة للهيئة التي خرجت عليها في طبعاتها الأولى، وفي مقدمتها هذا الكتاب الثمين. ومن ثم، اجتهدنا - تحقيقا لهذه الغاية - في الحصول على الطبعة الأولى من هذا الكتاب، حتى نقابِل نشرة خسرو شاهي، التي تُعتبر جمهرة الطبعات الحديثة عالة عليها؛ على الأصل المطبوع في1931م. فاستدركنا على النشرة المذكورة ما ترك صاحبها من مواضِع ربما بدا له ألا حاجة إليها، وإن ارتأينا ضرورة إثباتها؛ مراعاة لخطتنا في نشر آثار السيد. لهذا، فسيجد القارئ أن طبعتنا المذكورة هي أدق طبعات الكتاب وأوفاها؛ فقد تجاوزت قصور الطبعات السابقة، وتفادَت عوارها البادي؛ إلى نسخة طبق الأصل من الكتاب كما نشره المخزومي قبل وفاته مباشرة. نسأل الله أن ينفع بهذا الجهد، وأن يكون عونا للمهتمين بالسيد وتراثه؛ آمين.

__________

الهوامش:

 

1 - أكثر عيوب طبعة عمارة، التي أعاد إصدارها في القاهرة عام 2016م، بغير تغيير كبير؛ مصدرها قناعاته الأيديولوجيَّة. فقد جمع إلى مشارب الاعتزال والنيوسلفيَّة الواعية مؤثرات قوميَّة وماركسيَّة بنيويَّة. وقد كان لهذا الخليط الهجين أثره الضار والمشوِّه لا على ما يكتبه فحسب، بل على "خياراته" عند جمع وتحقيق أعمال السيد جمال الدين الأفغاني. ولم يكن عمارة بدعا في ذلك التخليط والتشويش؛ فهو في ذلك ابن لسياقه، لا يختلف في ذلك عن جمهرة اليسار المتحول إلى الإسلام.

2- فقيه ودبلوماسي ومُترجم إيراني. وُلد سنة 1938م في مدينة تبريز لأسرة علمية؛ حيث تتلمذ أولا على أبيه سيد مرتضى خسرو شاهي، ثم التحق بالحوزة العلمية في قُم، وتلقى العلم فيها على يد طائفة من كبار العلماء، في مقدمتهم الإمام الخميني، والعلامة محمد حسين الطبطبائي. وقد جمع إلى نبوغه العلمي نشاطا سياسيّا مكثفا؛ فكان أحد المعارضين لحكم الشاه، وبعد الثورة صار ممثلا للإمام الخميني في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، ثم سفيرا لإيران في الفاتيكان، ومكث حقبة سفيرا لإيران في مصر، فترة رئاسة محمد خاتمي. وقد توفي عام 2020م على إثر إصابته بفيروس كورونا.