أعاد الانقلاب العسكري الحاصل قبل أيام في جمهورية مالي، وما أعقبته من ردود فعل دولية، وفرنسية على وجه التحديد، موضوع الوجود الفرنسي في هذا البلد، وفي أفريقيا بشكل عام، كما فتح الباب لإعادة تعميق النظر في ضرورة العمل من أجل فك عقدة الاستعمار الفرنسي في جزء يسير من بلدان القارة الأفريقية.
فمن المعروف أن لفرنسا أكبر قاعدة عسكرية
في مالي، وسبق لها أن بسطت نفوذها لعقود على العديد من الدول الأفريقية. إذ علاوة على احتلالها أربع دول مغاربية (الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا)، ظلت مستعمرة كثيرا من البلدان في غرب ووسط أفريقيا (السنغال، بوركينا فاسو، بنين، غينيا، ساحل العاج، مالي، النيجر، توغو، تشاد، جمهورية الكونغو، الغابون، الكاميرون)، ناهيك عن جيوب كثيرة مَحسوبة جغرافيا على المحيط الهندي (جزر القمر، ومدغشقر، وموريشيوش، ومايوت، ولارينيون، وسيشل، وأرخبيل زنجبار في تنزانيا، وجيبوتي).. إنها في الإجمال ما كان يشكل نفوذ الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية ما بين 1534 و1980.
تكمنُ قيمةُ استعادة التاريخ في فهم حاضر أفريقيا اليوم، وحظوظ خروجها من دائرة الاستعمار الفرنسي، الذي ظل ممتدا منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم، وإن تغيرت أشكاله وأدواته، بتغير السياقات الدولية والإقليمية والداخلية.
واللافت للانتباه في فهم عُقدة الاستعمار الفرنسي في أفريقيا، أن ثمة إجماعاً للحكومات الفرنسية، على الرغم من تعدد ألوانها الأيديولوجية والسياسية، وتنوّع نخبها الاقتصادية والاجتماعية، على الحرص على البقاء متواجدة في هذه البلدان الأفريقية، مُهيمنة على ثرواتها الطبيعية الغنية، ومقدراتها البشرية والثقافية، ومتحكمة في أرصدتها العسكرية والدفاعية. وتكشف الدراسات العلمية والميدانية، بما فيها تلك التي أعدها فرنسيون، أن أفريقيا ظلت أولوية استراتيجية في كل سياسات فرنسا وخططها، وقد اجتهدت باستمرار في ابتكار الأساليب الأكثر فعالية ونجاعة من أجل تحقيق هذه الأولوية، واستثمار نتائجها بدهاء واقتدار.
فهكذا، وعَت فرنسا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أهميةَ التواجد السياسي والثقافي في البلدان الأفريقية، بعدما أصبحت صيغة الاستعمار العسكري المباشر غير مقبولة دوليا بنصوص قانونية صادرة عن الأمم المتحدة، ونتيجة نضالات الشعوب الخاضعة لاحتلالها. لذلك، حرصت على إعداد النخب السياسية الأفريقية القادرة على ضمان استمرار تواجدها على أراضيها، فأّمّنت لها الصعود إلى السلطة، وحافظت على بقائها فيها بأي ثمن. بل ظلت فرنسا لعقود تُنصّب الحكام، وتطيح بهم متى أرادت، وبهذا أمسكت بأهم أداة لإقامة الأنظمة السياسية والإبقاء عليها، طالما أنها طيّعة في خدمة مصالحها الحيوية.
ومن جهة أخرى، وظفت المدخل التربوي والثقافي من خلال توطين اللغة الفرنسية، وترسيخها في مناهج التعليم، وتحويلها إلى ما يشبه "العقيدة التربوية والتعليمية"، محدثة لهذا الغرض "رابطة الدول الناطقة كليا أو جزئيا بالفرنسية" (الفرنكوفونية). فعلى الرغم من تراجع مكانة الفرنسية كلغة علم وابتكار في العالم، وتآكل أرصدتها بشهادة الموضوعيين من علماء اللغة الفرنسيين، فإن سلاح اللغة ما زال حاضراً ومؤثرا في تجارب الكثير من الدول الأفريقية. وقد رُهنَت مصائر أجيال كثيرة من المتعلمين في البلدان الأفريقية، على الرغم من ازدياد القلق يوما بعد يوم بغموض مستقبل التعلم والتعليم باللغة الفرنسية، واقتناع الكثير من الفرنسيين بأن لغتهم (الفرنسية) عاجزة عن إدخالهم إلى العالمية، التي تعتبر
الإنجليزية وسيلتها بامتياز.
لا يبدو في الأفق القريب أن هناك إمكانية لخروج فرنسا من أفريقيا، فالإصرار الفرنسي يزداد حدة، لأسباب عديدة، منها تصاعد وعي الشعوب الأفريقية بخطورة استمرار الهيمنة الفرنسية على ثرواتها ومقدراتها، ومساهمتها (الهيمنة) بشكل مباشر أو غير مباشر، في تأخير سيرورات التغيير نحو الأفضل في البلدان الأفريقية. وقد أمدّها نجاح تجارب بعض الدول الأفريقية، الناطقة بالإنجليزية، على هذا الاستنتاج.
ثم إن دخول
فاعلين دوليين إلى أفريقيا، وفي
مقدمتهم الصين، واعتمادها استراتيجية جديدة في الشراكات مع البلدان الأفريقية، متخلصة من عقدة الاستعمار، ومبنية على فلسفة "رابح/ رابح"، فتح عيون الكثير من الأفارقة على قيمة تنويع العلاقات الاقتصادية الدولية، والخروج من هيمنة الاستعمار الفرنسي القديم.
يمكن لأفريقيا، في المقابل، تفكيك عُقدة الاستعمار الفرنسي لأراضيها، وإعادة بناء علاقات جديدة، مؤسسة على الاحترام المتبادل للسيادة وكل ما يرمز إليها، ونزع الطابع الاستعمار للوجود الفرنسي في دولها. فكما عبر الكثير من الأفارقة في أكثر من مناسبة ومقام.
لا توجد مشكلة للشعوب الأفريقية مع اللغة الفرنسية، ولا مع الفرنسيين، ولكن هناك خلافا حول التاريخ الاستعماري لفرنسا، والإصرار المستمر للنخب الفرنسية الحاكمة على التعامل مع أفريقيا بعقلية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. بل إن عديدا من الأصوات الأفريقية ونشطاء المجتمع المدني، يعتبرون فرنسا مساهمة بشكل رئيس في تأخر الديمقرطة وبناء نظم سياسية متوازنة في بلدانهم، لأنها تدعم النخب المناوئة لأي تغيير يفتح حظوظ الانتقال إلى الديمقراطية في مؤسسات مجتمعاتهم..
ومن يتأمل في كلمات التنبيه التي وحهها الرئيس "ماكرون" للقادة الأفارقة في أعقاب
الانقلاب الحاصل في مالي، يُدرك مدى بقاء عُقدة الاستعمار الفرنسي عصيّةً على الحل في عقل النخب السياسية الفرنسية، ولدى الكثير من القادة الأفارقة، الذين لم تنل من الكثير منهم أصوات شعوبهم المطالبة بتغيير نحو الأفضل.