مقالات مختارة

تونس.. بيان من أجل الديمقراطية

1300x600

تواجه تونس بعد حوالي عشر سنوات على ثورتها تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة، تضغط على مكتسبات الثورة ومنجزاتها، لا سيما مسارها في الانتقال الديمقراطي الذي حقق نجاحات معتبرة.
فبعد عقد من الزمن على الثورة، من الحكمة تجاوز الحديث عن خطورة جيوب النظام القديم في إرباك المشهد الوطني، والتركيز بدلا من ذلك على مسؤولية القوى المحسوبة على التغيير والثورة، فهي المحدد الحقيقي اليوم لملامح المشهد الوطني وتضاريسه، سلبا وإيجابا، ولم يعد ممكنا تفسير الصعوبات التي تواجهها البلاد، بالإحالة على المشكلات المستحكمة التي ورثتها البلاد عن حقبة ما قبل الثورة.

التجاذبات غير الصحية الحاصلة اليوم بين القوى السياسية وأحيانا مراكز الحكم، لا تندرج ولا يمكن النظر إليها في سياق، ديناميكية إيجابية تعكس حيوية المسار، ولا تنافسية حزبية بناءة، وإنما تنازع صفري، ينطوي فيه خطاب المختلفين على الكثير من الإقصائية والانتقام والتشفي وتصفية الحسابات. وهو تنازع يبدو معطلا للمسار الديمقراطي، ومربكا لجهود استكمال مؤسسات الحكم. 

والذي يبعث على القلق، أن المعركة تبدو مفتوحة على جميع الجبهات، وهي حرب الكل ضد الكل. ويعكس التوتر المسجل في الأسابيع الأخيرة بشأن حكومة إلياس الفخفاخ ثم لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان، ذروة التصعيد بين الفرقاء السياسيين في مشهد لا يخلّف أي انطباعات إيجابية لدى الرأي العام، والناخب الذي وضع ثقته في الأحزاب من أجل أن تستكمل إنجاز استحقاقات الثورة في المستوى الاقتصادي والتنموي، ومحاربة الفساد. بل وقع الجميع في فخ جيوب الثورة المضادة والاندراج في استراتيجيتهم، وهم المتسللون داخل مجلس نواب الشعب، لشل عمله، وتغذية التباينات بين القوى السياسية، فتحول الاختلاف إلى خلاف، والتنافس إلى صراع صفري هدام.

بيد أنه بعد أن هدأ غبار المعارك نسبيا، حان وقت التعقل والتحلي بالحكمة، ووقف حالة الصخب والتهاوش التي سادت لأشهر وأسيء فيها لعمل السلطة التشريعية، وتشوّهت معها صورة الأحزاب السياسية، لا بد من لحظة توقف ويقظة ومراجعة.

أولا: كانت جل القوى السياسية والاجتماعية بشكل أو بآخر ضحايا الاستبداد والدكتاتورية في مرحلة ما قبل الثورة. كما كانوا شركاء في المقاومة والنضال ضد تلك المنظومة الاستبدادية. هذه القوى المختلفة، كانت أيضا شريكة في بناء المسار الديمقراطي وإنجاحه، وحمايته وتعزيزه كلٌّ من موقعه. ولا شك أن هذه القوى السياسية والاجتماعية ستكون شريكة في استكمال المسار الديمقراطي، والمساهمة في البناء الوطني حاضرا ومستقبلا.

ثانيا: تمثل الأحزاب السياسية ركيزة أساسية في البناء الديمقراطي، القائم على التعددية والشراكة والتوافق الوطني، وقد تحمّلت الكثير من هذه الأحزاب في البلاد بدرجات متفاوتة مسؤولية الدفاع عن الحقوق والحريات والتعددية، قبل الثورة وبعدها. ونجحت هذه القوى مجتمعة في رسم خارطة طريق لمسار ما بعد الثورة، كما أحدثت في التفاعل بعضها مع بعض حالة من التوازن في المشهد السياسي، عبر تدافع بناء ومعدل، مكّن من منع أي تغول أو استفراد لطرف ما بالحكم، أو بالنكوص به إلى مربع الاستبداد من جديد، بل ورسّخ مسار مدنية الدولة وقيم الجمهورية، في سياق تعددي. وهو دور تاريخي مقدّر يجب تثمينه وإبرازه باستمرار والاحتفاء به.

ثالثا: تعتبر التجربة الحزبية الحقيقية في تونس تجربة جديدة وفتية، لا تزال تتخلق وتترشد وتنضج. وهي تجربة في مجملها معقولة، رغم الصعوبات والتحديات وهشاشة البيئة السياسية التي تنمو فيها. وتحتاج هذه التجربة أن تعطى مزيدا من الوقت والفرص من أجل أن تستوي عودا، وتتضح رؤية، وتنضج ممارسة. والتطور الحزبي استحقاق حيوي، يجب النظر إليه كجزء من البناء الوطني وشرط من شروطه، ولا يمكن النظر إليه كخصم من عملية البناء الوطني. 

فالأحزاب السياسية هي كيانات اجتماعية، يسري عليها قانون القوة والضعف، كغيرها من الكيانات. تحتاج هي نفسها لديناميكية ذاتية ومستمرة للتطوير والتجديد. بينما تمثل هي والمنظمات الاجتماعية ركائز البناء الديمقراطي، وتعبيراته المدنية. والأحزاب هي الحاضنة السياسية للمشتغلين بالشأن العام، وأطر تأهيلهم وتدريبهم لقيادة البلاد، وفيها وبها يتدرجون في تشكيل مهاراتهم السياسية، رؤية وتحليلا وقيادة. والأحزاب بهذا المعنى هي التعبيرة السياسية المتقدمة للفعل السياسي المنظم.

رابعا: واكب الدور الطليعي للأحزاب وللمنظمات الاجتماعية، أدوارا متقدمة لشخصيات وطنية بارزة من النساء والرجال قبل الثورة وبعدها، أدت دورا متقدما في مواجهة الاستبداد والدكتاتورية في عهدي بورقيبة وابن علي، ثم في المسار الديمقراطي اللاحق تثبيتا وترسيخا وترشيدا. وكان لهذه الشخصيات في الجامعات والمنظمات والنقابات الدور المقدر في توقيع العرائض والبيانات والحملات الحقوقية؛ دفاعا عن الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية. مقاومة فردية عززت ودعمت وواكبت العمل المقاوم الذي أنجزته الأحزاب والتيارات السياسية والمنظمات الوطنية، وصولا للحظة ثورة الكرامة في 2011، وتواصلت بأشكال مختلفة بعدها. 

بيد أن الاحتفاء بهذه الشخصيات والاعتراف بدورها، لا يمكن أن يكون منطلقا أو مقدمة للتشكيك في الأحزاب ودورها في المشهد الديمقراطي، فالشخصيات الوطنية تزداد فعاليتها السياسية وتأثيرها السياسي كلما كانت ضمن أحزاب سياسية.

 

إذا لم تراجع القوى الوطنية بخلفياتها المحافظة واليسارية والقومية والليبرالية خطابها وسياساتها، وتعيد ترتيب أجندتها، فإن التجربة الديمقراطية ستكون محل تهديد وتقويض من الأطراف المعادية للثورة.

 



خامسا: تتعرض التجربة الحزبية التعددية في تونس إلى عملية ترذيل وشيطنة، ضمن مسعى متكامل لاستهداف تجربة الانتقال الديمقراطي التي حققت أقدارا معتبرة من النجاح السياسي، بالمقارنة مع بقية دول المنطقة. فبقدر ما تحول التنافس السياسي، إلى ممارسة مدنية متقدمة، تحسم نتائجها عبر صناديق الاقتراع بين أحزاب متعددة، وعلى قاعدة الشفافية وتكافؤ الفرص، يتفاقم قلق قوى إقليمية، لا تريد للتجربة التونسية أن تكون محل اهتمام وإعجاب من قبل شعوب المنطقة، من تغيير سياسي وتحول ديمقراطي. 

وعبر وسائط إعلامية واجتماعية، تتعرض الأحزاب السياسية لهجمة غير مسبوقة لإرباكها وتصويرها باعتبارها المشكل وليس الحل، وأن استقرار البلاد ليس في التعددية الحزبية، وإنما في «نظام قوي» متحكم ومسيطر، يفرض الانضباط والانسجام والاستقرار بأي ثمن، على غرار ما يحدث في مصر السيسي. ولإنجاح مسعاها، تعمل هذه الأطراف على تغذية الصراع والاستقطاب والتجاذب بين الأحزاب، وجرها لمربع المعارك الصفرية، والحرب المفتوحة، بدل الشراكة في البناء الوطني والتنمية الاقتصادية. وتتغذى هذه القوى المعادية للتجربة الديمقراطية في تونس على استدراج الأحزاب لمربع الصراعات الأيديولوجية، والاصطفاف ضمن أفق أيديولوجي، يحرف اهتمام القوى السياسية عن القضايا الوطنية الحقيقية، والاندراج في أجندات تبادل الإقصاء والتنازع اللامتناهي.

سادسا: تواجه التجربة التونسية اليوم امتحان حماية المسار الديمقراطي، وما يقتضيه من احترام للنظام السياسي الذي توافق عليه التونسيون وثبتوه في دستور الجمهورية الثانية (2014 ). وقد ضمن الدستور بشكل واضح تقاسم السلطات، فضلا عن فصلها بشكل واضح بين ثلاثة مراكز للحكم، وهي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والبرلمان. وينبع هذا التقاسم والتوزيع للسلطات والفصل بينها من فلسفة عدم التغول، وضمان عدم تمركز الحكم بين يدي جهة واحدة، قد تجنح بها للتغول والاستبداد. بيد أن فلسفة توزيع السلطة وعدم مركزتها في مركز حكم وحيد، تم ترشيدها بفلسفة الوحدة والتكامل والتعاون بين هذه المراكز، لضمان نجاعة العمل الحكومي وفعاليته. 

وما يبدو اليوم من تنازع وعدم انسجام بين مراكز الحكم، يعكس في جانب منه ديناميكية إيجابية في رقابة السلطات بعضها على بعضها، وتوازن السلطات في ما بينها، وهي حاجة حيوية ضمن فلسفة عدم التغول. بيد أن تحول هذه الديناميكية من ديناميكية توازن وتوزيع، إلى ديناميكية استحواذ وتوسيع، من شأنها إن استفحلت أن تستحيل عامل تعطيل ثم تدمير لبنية النظام السياسي الحالي. والنظام السياسي الحالي الذي يمكّن للأحزاب السياسية من خلال تنافسها على تشكيل الحكومة، ومن خلال دورها التشريعي عبر كتلها البرلمانية، يجعل من الأحزاب السياسية ركيزة ورافعة النظام السياسي، وحارسة التوازن السياسي بين مراكز الحكم في هذا النظام.

سابعا: حققت تونس عبر مسارها الديمقراطي الذي قادته الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية، ما عجزت عنه كل دول المنطقة من إحداث تحول من بنية سياسية تسلطية وفردية إلى بنية سياسية ديمقراطية، يعبر فيها الشعب عن إرادته بحرية من خلال انتخابات حرة وشفافة. ويمكن القول إن هذا المسار الديمقراطي الذي نحن بصدده اليوم، هو حصيلة من حصائل الجهد الوطني الحزبي والمنظماتي منذ الثورة إلى اليوم، وفي الوقت نفسه، فإن هذا المشهد الحزبي والمنظماتي تعددا وتنوعا وتدافعا، هو تعبيرة من تعبيرات هذا المسار الديمقراطي، ونتيجة من نتائجه الإيجابية؛ فالكثير من القوى هي تعبيرات وطنية جديدة على مسار ديمقراطي فسح المجال أمام ظهور هذه الأحزاب والقوى التي تتحول تدريجيا إلى قوى فاعلة وجزء من ديناميكية حيوية ومتجددة في المشهد الوطني، فهي أحزاب وقوى سياسية، والابن الشرعي لمسار ديمقراطي انطلق بعد الثورة، أفرز ويفرز قواه المعبرة عنه. وهو مكسب يجب الاحتفاء به وتعزيزه، وليس الضيق به ومحاولة تفكيكه.

ثامنا؛ إن التنافس الحزبي بين القوى الوطنية اليوم، لا يجب أن ينتقل بأي حال من الأحوال من تنافس بين أطراف من أجل تموقع أفضل لخدمة البلاد، واستكمال أهداف الثورة في العدالة والتنمية الاقتصادية وحكم رشيد إلى معارك غير متناهية مفتوحة على المجهول، أو إلى اندراج في أجندة جيوب الثورة المضادة المعبرة عن نفسها حزبا، بينما هي في حقيقتها فيروس يخترق المسار الديمقراطي تخريبا، والمشهد الوطني توتيرا، والمشروع الوطني في التنمية والتقدم إرباكا. لقد جربت تونس لعقود نظام الحزب الواحد، ونظام الزعيم الأوحد، وجربت نظاما سياسيا يضرب فيه الحاكم القوى السياسية بعضها ببعض، ويغذي الصراع الأيديولوجي المدمر بين التيارات السياسية، ويستعين بالبعض لضرب البعض، ثم يستكمل الإقصاء بالانقضاض على من تبقى لإنهائه أو إخضاعه. من حق البلاد اليوم أن تسير ضمن أفق وطني مختلف ومتنوع ومتعدد وتشاركي، يحمي تجربة الانتقال ويعززها، ويحتفي بقوى سياسية جادة تكبر وتنضج، متعددة ومسؤولة ومؤهلة للبناء والإنجاز.

تاسعا: فسحت المعارك المفتعلة، بين القوى الوطنية الديمقراطية، المجال لجهات معادية للثورة والتغيير لملء الفراغ، والتسلل في جنح غبار المعارك «الصفرية» بين القوى الوطنية التي هي في الأصل شريكة في التغيير وشريكة في البناء، شريكة في الماضي وشريكة في الحاضر والمستقبل. حتى بات الحزب المعادي للثورة، بل ويعتبرها مؤامرة و"قوسا يجب أن يغلق" يتصدر استطلاعات الرأي، ويتحول العنوان الأبرز للمشهد الوطني بعربدة، وتهاوش يعكس حجم مؤامرته على الثورة والتغيير، وتربصه بمكاسب الثورة والتغيير، من أجل تقويضها. 

وإذا لم تراجع القوى الوطنية بخلفياتها المحافظة واليسارية والقومية والليبرالية خطابها وسياساتها، وتعيد ترتيب أجندتها، فإن التجربة الديمقراطية ستكون محل تهديد وتقويض من الأطراف المعادية للثورة، التي تلعب قوى إقليمية معادية للديمقراطية، رافعة وحاضنة وداعمة لها. وعلى الأحزاب والقوى الوطنية أن تدرك جيدا، أنها في خندق واحد من أجل حماية هذه التجربة الفريدة في المنطقة، بل هي تجربة تمثل أمل قوى الحرية والتغيير في منطقتنا، وانتكاستها ستبدد حلما هو اليوم حقيقة متعينة في أبهى صوره في تونس.

عاشرا: ثورة الكرامة في تونس، وما بسطته من تحول عظيم في البلاد والمنطقة، لا يزال يخلخل أركان الاستبداد والدكتاتورية، ويمزق الحجب التي تتستر وراءها أنظمة فاسدة ومفسدة، مسارا ديمقراطيا، ودستورا جمهوريا، ومؤسسات حكم منتخبة، توجب اليوم على القوى الوطنية أن تقف وقفة جماعية شجاعة وصريحة، تصالحا مع الثورة وأهدافها، وتواضعا لتطلعات الشعب وانشغالاته، وتداعيا لكلمة سواء. فبعد حوالي العقد على الثورة، على القوى الوطنية أن تعيد كتابة بيان الديمقراطية، حماية وترسيخا لها، وتمثلا للدستور بروح ديمقراطية تحررية، توزع مراكز السلطة حكما، وتحكم الربط بينها تعاونا، وتضبط سيرها أداء، وترشد سياساتها رقابة.

فحاجة البلاد بعد مرور 10 سنوات على الثورة لمبادرة للحوار الوطني الشامل والجاد، لا تقبل التأجيل..مبادرة للمراجعة والمصارحة والمصالحة، لترميم البيت الوطني، وإنعاش لقيم الثورة والتغيير، والأهم من كل ذلك لصياغة بيان من أجل الديمقراطية، مدخلا حيويا لاجتراح عقد اجتماعي، يضع الأسس والمرتكزات الأساسية لـ منوال اقتصادي اجتماعي تضامني عادل، ويكرّس الشراكة الوطنية في إطار الاحتفاء بالتعدد والحكم الرشيد.

*عضو مجلس شورى حركة النهضة

صحيفة "المغرب" التونسية

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع