كتاب عربي 21

دولة "الشخصية الأقدر"

1300x600

على إثر الخطاب الملكي المغربي بمناسبة عيد العرش، الذي تحدث عن الظرفية الاستثنائية التي تعيشها البلاد، بالنظر للتداعيات القاسية لفيروس كورونا المستجد على المستويات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، خرجت بعض الجهات للترويج لفكرة الإعلان عن حكومة وحدة وطنية، تتجاوز الأحزاب، وتقفز عن المواعيد الانتخابية التشريعية القريبة.

ليس الأمر بجديد، فنفس الجهات روجت للفكرة قبل أشهر، لكن الجديد في الدعوة الجديدة اختيارها الاستباقي لرئيس الوزراء القادم ممثلا في ولي العهد الذي يبلغ من العمر سبعة عشر ربيعا.

في نظر المروجين، تحتاج شخصية قائد الحكومة إلى "الحياد السياسي والإجماع الشعبي والفعالية المؤسساتية، أي نفاذ الكلمة". لا يهم هنا الحديث عن نصوص دستورية منظمة للسلطات أو شرعية انتخابية محصنة للمؤسسات أو تمرس سياسي أو غيرها من شروط الأهلية والكفاءة، فالقدرة على إنجاز الأوراش المنتظرة لا تحتاج إلا للقرب من دائرة القرار الأساسي في البلاد، أي القصر باعتباره "القادر" الأوحد على تجميع كلمة المغاربة وإن لم تكن مشتتة، أو تعبئة الموارد لتحقيق الأهداف. إنها دولة "الشخصية الأقدر" صارت فيروسا مستجدا تنتقل عدواه في العالم العربي شرقه ومغربه دون استثناء.

 

في تونس ما بعد "ثورة الياسمين" يجاهد الرئيس المنتخب، متحججا بالظرفية السياسية الخطيرة التي تعيشها البلاد، في استعراض عضلاته في التفسير القانوني لفصول الدستور محاولة منه للاستئثار باختيار رئيس وزراء يقود المرحلة، في تجاوز تام لأحزاب وبرلمان حائز للشرعية الانتخابية

ليس المغرب وحيدا في محاولات تكريس مفهوم "الشخصية الأقدر"، ففي تونس ما بعد "ثورة الياسمين" يجاهد الرئيس المنتخب، متحججا بالظرفية السياسية الخطيرة التي تعيشها البلاد، في استعراض عضلاته في التفسير القانوني لفصول الدستور محاولة منه للاستئثار باختيار رئيس وزراء يقود المرحلة، في تجاوز تام لأحزاب وبرلمان حائز للشرعية الانتخابية كما الرئيس.

قيس سعيد، وبعد "فشل" اختياره السابق المتجاوز لاختيار الأحزاب الكبرى، وسقوطه في دائرة تضارب المصالح المؤدي لاستقالة إجبارية، يكرر المحاولة ذاتها في صورة أكثر تطرفا باختيار شخصية غير محزبة ولم ترد أصلا في اقتراحات الهيئات الحزبية، لمجرد قربها من دائرة مستشاريه.

إلياس الفخفاخ الذي لم يحز من أصوات التونسيين في انتخابات الرئاسة غير فتات الأصوات، كان "الشخصية الأقدر" في نظر قيس سعيد. واليوم وقع الاختيار على هشام المشيشي الذي لا يحظى بأي ظهير حزبي، كما رئيسه، في مشهد قتل عمد للسياسة وللتمثيلية الانتخابية برمتها.

الرئيس التونسي يريد مراجعة الشرعية "حتى تكون تعبيرا صادقا وكاملا عن إرادة الأغلبية"، ويهدد بين زيارة وأخرى لثكنات الجيش بالزج بالمؤسسة العسكرية في أتون "حرب" السياسة، بدعوى مواجهة الـ"مؤامرات" التي يراها ولا يصارح التونسيين بحقيقتها.

 

الرئيس التونسي يريد مراجعة الشرعية "حتى تكون تعبيرا صادقا وكاملا عن إرادة الأغلبية"، ويهدد بين زيارة وأخرى لثكنات الجيش بالزج بالمؤسسة العسكرية في أتون "حرب" السياسة

التخويف من المجهول كان دائما سلاحا في أيدي الديكتاتوريات، واليوم صرنا نراه متجليا في خطابات "الديمقراطيات" الناشئة التي لا تزال تتلمس طريقها في ترشيد ممارسة الحكم، والاعتراف بصناديق الاقتراع مصدرا وحيدا للشرعية وضامنا لاستمراريتها.

أكثر من عشرين شخصية مقترحة لم ير فيها الرئيس، على خلاف الأحزاب المطلوب منها منح الثقة للبرنامج الحكومي، من هو بقادر على تشكيل حكومة تقي تونس أمواج التجاذبات الأيديولوجية وتمنح اقتصادها جرعة أمل في مواجهة التحديات.

ترويض الهيئات الحزبية الشرعية وترذيلها خطاب ممنهج يستهدف تغيير النظام السياسي، ليوافق هوى الرئيس قيس سعيد الطامح لجعل الوزراء مجرد موظفين ملحقين بديوانه، دون رؤية أو برنامج عمل أو وزن سياسي. لقد كان منتظرا من التجربة التونسية تقديم نموذج أرقى يجعل التنافس الحزبي عصبه، والاقتراع الإيجابي أو العقابي منطلقا للتصحيح أو تكريس المكتسبات. أما السعي الحثيث لاستنساخ نماذج هيمنة الرئيس/ الأب أو الزعيم الأوحد فما هو إلا دعوة صريحة للكفر بالعملية السياسية، والانتقال لمناطق التطرف الفكري والأيديولوجي.

دولة "الشخصية الأقدر" أقرب ما تكون لدولة العسكر المبنية على امتلاك القدرة على الردع في مواجهة المواطن وسيلة للإقناع، أو فرض الأمر الواقع بقوة السلاح. لكن دكتاتورية التفسير الفردي للنص الدستوري أو تطويعه، في غياب هيئة يعود لها أمر الفصل في التعسف، تقود لنفس النتيجة بأدوات ناعمة لا ضمانة لانزلاقها المحتمل للخشونة ولو بعد حين.

 

دولة "الشخصية الأقدر" أقرب ما تكون لدولة العسكر المبنية على امتلاك القدرة على الردع في مواجهة المواطن وسيلة للإقناع، أو فرض الأمر الواقع بقوة السلاح. لكن دكتاتورية التفسير الفردي للنص الدستوري أو تطويعه، في غياب هيئة يعود لها أمر الفصل في التعسف، تقود لنفس النتيجة

خطابات محمد مرسي الأخيرة تشبتت بالدفاع عن "الشرعية" أساسا لها، وهي "الشرعية" التي ادعى الجيش تدخله للحفاظ عليها وحمايتها. عبد الفتاح السيسي، المنقلب على "الشرعية"، وجد في ذاته "الشخصية الأقدر" على حكم مصر وتخليصها من "الإرهاب المحتمل". ولأنه كذلك، فقد "فوضه" الشعب الطامح لرئيس قادر "يحنو عليه" وجيش أقدر "يحميه".

معادلة "القدرة "في مواجهة الشرعية الانتخابية، ظلت لسنوات أس الصراع بين مختلف السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والمؤسسة العسكرية؛ باعتبارها محتكرة لاستخدام العنف داخليا بعد فشلها المزمن في توجيه السلاح للخارج وحماية الحدود. وكلما توافقت المحاور الخارجية على تنصيب "ممثل" لمصالحها، انبرت الأبواق لتقديمه في هيئة المنقذ "الأقدر" على تحقيق طموحات الجماهير.

ممارسة الحكم لا تحتاج لقدرات استثنائية أو كفاءات خارقة، بل لشرعية انتخابية تحمي وقت الإنجاز وتعاقب حال الإخفاق. هي الطريقة الأمثل التي توافقت البشرية على انتهاجها منذ عقود ولا تزال، بالرغم من "محدودية" النظام التمثيلي التي تبدت في كثير من البلدان بسبب انفصال المنتخبين عن الناخبين، وهو أمر مرتبط بالممارسة لا يعيب الفكرة ومنطلقاتها.

"الشخصية الأقدر" هي الأصل في مجتمعاتنا، تصول وتجول في الجغرافيا العربية من البيت إلى القيادة، مرورا بالمنظمات الأهلية والأندية الرياضية والمؤسسات الثقافية والهيئات النقابية والأحزاب. هناك يعمر "الزعماء" برضا الأتباع والمريدين، لأنهم الأقدر على قيادة السفينة وتحقيق الإجماع.

في بعض الممالك والإمارات العربية تقتصر المسؤوليات على أبناء العائلات الحاكمة، دون غيرهم من المواطنين أو الرعايا. وفي "الجمهوريات" المفترى عليها، تنتقل السلطة داخل العائلة أو مؤسسة الجيش والمخابرات والأجهزة الأمنية، دون شرعية غير امتلاك المعلومة والسلاح واحتكار استخدامها. وعندما تبدت بعض الآمال في التحول لنظام يقربنا من ممارسة الحكم تناوبا سلميا وفصلا للسلطات، يتحول النص الدستوري لعائق ومكبل لحرية المبادرة وتملكها.

الإجماع مدمر ومانع للتجديد والتنافس على الخلق والإبداع، وهو بذلك وسيلة فناء لا إحياء. أما التشبث بالسلطة فداء يصيب كل من وصل إلى رأسها بـ"الصدفة" أو عن سبق ترصد وإصرار. يومها فقط، يعتقد كل ذي سلطة أو جاه أن لا رجل للمرحلة غيره، فينادي في العامة أن "لا تسمعوا من أحد غيري"، سواء أكان مشهرا للمسدس أو للثروة أو النص "الدستوري".