"رمية بغير رام"!
هكذا كان مشهد إمساك خطيب مسجد "آيا صوفيا"، بالسيف، فإذا بالقوم يغدون خماصاً وبطاناً وهم يهاجمون الخطيب، الذي هو وزير الأوقاف، ويهاجمون أردوغان والدولة التركية، لأن الخطيب هنا إنما يقدم صورة تسيء للإسلام وكيف أنه دين إرهاب، فصدق فيهم قول القائل رمتني بدائها وانسلت!
أما كونها "رمية بغير رام"، فلأن القوم، وسواء بإمساك الوزير بالسيف أم لا، قد أعلنوا الحرب، ولم يكن المشهد إلا أداة للتوظيف في هذه المعركة المنصوبة من قبل صعود الشيخ للمنبر، وظهوره يحمل السيف، ليصبح هذا هو العنوان الأفضل لحملة الإبادة الإعلامية، التي تشارك فيها عواصم الثورة المضادة. فضلاً عن أفراد من هنا ومن هناك ليس لهم في العير ولا في النفير، وهم يفتقدون للمشروع السياسي والفكري، ويعيشون على ذمة مشروع جماعات الإسلام السياسي، فليسوا أكثر من ردة فعل، دون أن يجدوا أنفسهم مطالبين بتقديم مشروع منافس أو بديل.
في صباي كنت مغرماً بقراءة كتب الفقه، وما تختزنه الذاكرة هو عناوين، بعد ضياع المتون بحكم الشيخوخة المبكرة! وهذه العناوين تدور حول الجدل بين الأئمة حول إمساك الخطيب بالسيف، ودلالة ذلك، وأحدهم تحمس للأمر لدرجة أنه قال ولو بسيف من خشب. وفي الحقيقة أنني كنت أستبعد من قراءاتي ما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل، لأن المستقر في وجدان المصريين، أن لقبه: "حنبلي" مرادف للتشدد، فيقول المصريون: "فلان حنبلي"، أو: "لا تكن حنبلياً"، أي متشدداً وعصبياً.
وإذا كان طلاب الأزهر يخيرون بين المذاهب الأربعة في مرحلة تعليمية معينة، فيختار كل طالب المذهب الذي يريد، فإن أعداد من يدرسون مذهب الإمام أحمد هم قلة قليلة في كل معهد ديني، ويرجع البعض قبولهم بهذا الخيار إلى أن أولياء أمورهم عاشوا فترات طويلة في المملكة العربية السعودية، ونادراً ما يوجد أستاذ مستقل متخصص في المذهب بالكثير من المعاهد، فيتولى المهمة واحد من المتخصصين في المذاهب الثلاثة الأخرى!
يقولون إن الإمام أحمد ظُلم، وإن له آراء في كثير من القضايا تبدو الأكثر يسرا بالمقارنة بالمذاهب الثلاثة الأخرى.. وهذا ليس هو الموضوع!
الصراخ والعويل
فحمل الخطيب سيفاً في يده له أصل، وربما يمثل رمزية تاريخية، وهو ما يسري على وضع أردوغان غطاء رأس وهو يقرأ القرآن في هذا اليوم، وهناك جدل آخر بين أئمة الفقه حول "عمامة الإمام"، لعله الإمام مالك الذي يرتقي بها إلى مستوى الضرورة، فلا يؤم الناس حاسر الرأس!
وكان لأمر خطيب "آيا صوفيا" أن يمر، لولا أن القوم في حالة صراخ وعويل، في مواجهة أي قرار يتخذه أردوغان، وقد احتشدوا في اتجاه الوقوف ضده في موقعة "آيا صوفيا" كما لو كانوا من السلالة النقية للبيزنطيين الذين انتصر عليهم السلطان محمد الفاتح، وكأنهم جزء من أداء مجلس الكنائس العالمي الذي أعلن الحداد العام بسبب قرار تحول المبنى من متحف إلى مسجد!
لقد انبعث الصراخ من ممثلي الإسلام السعودي، لا فرق بين المغرد "منذر آل الشيخ مبارك"، و"عمرو أديب" الذي يعمل في إحدى القنوات السعودية، وانضم إليهم عدد من المغفلين الذين استدعوا العسكر لنصرتهم في 30 حزيران (يونيو) 2013، ووجدوها فرصة في معركة الاستقطاب السياسي، فلم يعد لديهم ما يفعلونه إلا أن يهربوا من وطأة الانقلاب العسكري الذي اكتووا بناره، إلى البحث عن ميدان للنضال المجاني بالهجوم على كل من له صلة بحكم ما قبل هذا التاريخ المشؤوم، تقرباً من النظام العسكري بالنوافل، الذي أغلق في وجوههم الأبواب، فيريدون القفز إليه من الشباك!
فحمل الخطيب سيفاً في يده له أصل، وربما يمثل رمزية تاريخية، وهو ما يسري على وضع أردوغان غطاء رأس وهو يقرأ القرآن في هذا اليوم، وهناك جدل آخر بين أئمة الفقه حول "عمامة الإمام"، لعله الإمام مالك الذي يرتقي بها إلى مستوى الضرورة، فلا يؤم الناس حاسر الرأس!
إنهم يحسبون أردوغان على الإخوان، ويعلمون أن الحكم العسكري في مصر يناصبه العداء انصياعاً لرغبات الكفيل الإماراتي، فاعتبروها فرصة لإثبات الولاء، ظنا منهم أنه نظام مبارك، الذي يمكن الدخول عليه من هذا الباب، فيغفر ويتسامح في الأخطاء المرتكبة في حقه!
لقد كتب "آل الشيخ مبارك" ما قاله "عمرو أديب" من أن حمل السيف رسالة إرهابية.. انظر من يتكلم!
فالسيف يزين العلم السعودي، ثم إن القادة السعوديين لهم صور في احتفالات كثيرة وهم يشهرون فيها السيوف، التي يقومون بتسليمها لضيوفهم الكبار كجزء في الرقصة الخليجية الشهيرة، وقد شاهدنا الرئيس الأمريكي ترامب يحمل السيف معهم، كما شاهدنا كفيلهم العام محمد بن سلمان يفعل الشيء نفسه، ولم يقل أحد إنها "رسالة إرهابية"، أو أنها تعبر عن إيمان القوم بنشر الإرهاب!
ولقد ضجت منصات التواصل الاجتماعي بصورة ملكة بريطانيا وهي تمس بسيفها ضيوفها فيبدون كما لو كانوا في المحراب خاشعين خاضعين، ضمن التقاليد البريطانية العتيقة، ولم يفسر أحد هذا بأنه إرهاب، أو دعوة إليه!
وقبل هذا وبعده، فإن أصحاب القلوب الرحيمة، التي أفزعها مشهد السيف في يدي خطيب "آيا صوفيا"، يعيشون في كنف مولاهم محمد بن سلمان الذي استخدم المنشار في تقطيع أحد معارضيه، فليسوا هم من يتحدثون عن نبل، أو سماحة!
إنهم يتسيرون
فإذا انتقلنا إلى الحالة الميؤوس منها الخاصة بتجمع 30 حزيران (يونيو)، وجدنا كيف أنهم تسللوا من جديد ليتسيروا، حيث يذكرون سيرتهم الأولى، عندما كانوا يظهرون وكأنهم رسل المحبة على الأرض، ويهتفون: "طول ما الدم المصري رخيص.. يسقط يسقط أي رئيس"، وهو هتاف كان له ما بعده، فالدماء أريقت بواسطتهم في غزوة المقطم، وقد شاهد العالم كله هذا الإخواني وقد أشعلوا في جثمانه النيران أمام مكتب الإرشاد، يومئذ طالبت كبيرهم الدكتور محمد البرادعي بإدانة ذلك، إلا أنه لم يفعل، كما تشكل من بعد هذا الهتاف، هذا التشكيل العصابي المسمى بـ "البلاك بلوك"، ضمن أدواتهم في الانقلاب على الرئيس المنتخب، فهل يعد منطقياً أن يعودوا بعد هذا إلى الخطاب القديم، عن الإرهاب الذي يمثله خصومهم، فخرجوا لإسقاطهم في معركتهم ضد العنف؟!
إن هؤلاء وهؤلاء، ولأنهم تجمع واحد، خرجوا يستنكرون عند وقوع محاولة الانقلاب في تركيا، عنف الشعب في مواجهة تمرد رجال الجيش الذين خرجوا على مقتضى الواجب الوظيفي، فهم مع بطش الجيوش، لكي تتمكن من القيام بمهامها الانقلابية، وباعتبارها من تحتكر القوة.
إنه أمر مرده إلى شيوع الإسلام السعودي، الذي يؤمن ممثلوه في القاهرة بضرورة الخضوع للحاكم وإن أكل مالك وجلد ظهرك، لكنهم أباحوا الخروج على حاكم واحد هو الرئيس محمد مرسي!
إنه خطاب يرهبه سيف خطيب "آيا صوفيا،" في الوقت الذي ينظر فيه إلى منشار محمد بن سلمان بكل إجلال وتقدير، مع أن السيف يرمز للقوة، والمنشار تعبير عن الإجرام.
ألا شاهت الوجوه.. ألا شاهت الوجوه!