لم يكن نتنياهو، حتى في أشدّ كوابيسه ظلمة وكآبة ليتصوّر أن متظاهرين من اليمين والوسط واليسار سيتجمعون أمام مقر إقامته ويهتفون ضده ويدعونه للرحيل.
«ارحل يا بيبي» يتحول إلى «نداء» للمحتجين في
القدس كما في تل أبيب.
المحتجون في هذه المرحلة يربطون ما بين سوء
الأداء الحكومي في مواجهة جائحة «كورونا» والفساد العام الذي أصبح ظاهرة مستشرية
في المبنى السياسي العام في إسرائيل، وتحولت النقمة «الشعبية» ضد النخب السياسية
الحاكمة إلى ما بات «وعيا» عاما و»ثقافة» تتعمّق يوما بعد يوم.
نتنياهو هو النموذج الأمثل في نظر هؤلاء
لظاهرة الفساد وسوء الأداء، والتلاعب بلقمة عيش مئات آلاف الإسرائيليين الذين
أصبحوا فجأة عاجزين عن توفير متطلبات العيش الكريم، إن لم نقل إنهم باتوا يعانون
في قدرتهم على توفير الحدود الدنيا من متطلبات العيش الفقير.
ما زالت الأغلبية الصامتة في إسرائيل إزاء
تدهور مستوى معيشة أعداد متزايدة من الإسرائيليين لم تدرك بعد الآثار التي ستنجم
عن استفحال تفشي الـ «كورونا»، والآثار التي نجمت حتى الآن.
لم تدرك هذه الأغلبية بعد أنّ زمن «الرخاء»
الاقتصادي في إسرائيل قد ولّى.
ولم يتمّ حتى الآن الربط الكافي بين سوء أداء
نتنياهو وحكومته المطيّة، وبين فساده وأجندته للتملص من تبعات هذا الفساد، وتلاعبه
بهذه الحكومة خدمة لهذه الأجندة.
وبطبيعة الحال فإن الوقت ما زال مبكرا لدى هذه
الغالبية للربط ما بين فساد النخب السياسية وبين سياسات هذه النخب في المجال
السياسي والأمني، وخصوصا الربط ما بين الفساد وما بين الاحتلال والاستيطان
والرشاوى السياسية للحلفاء، وكل المناورات والمخادعات التي تبقي مصلحة «المواطن»
هي في آخر سُلّم الأولويات والاهتمامات.
ومع ذلك كله فإن ثمة مؤشرات غير مسبوقة على أن
هذه الاحتجاجات لن تكون كسابقاتها، وأن المراهنة على تراجعها وانحسارها هي مراهنة
خاسرة، ويمكن أن تودي بأصحاب هذه المراهنة إلى خيبة أمل كبيرة، كما يمكن أن تودي
بالنخب السياسية التي تستهين بهذه الاحتجاجات وآثارها الحالية والمستقبلية على حدّ
سواء.
الاحتجاجات هذه المرّة، وفي هذه المرحلة
مرشّحة للتحول إلى «ربيع» إسرائيلي كبير ليس على خلفية مطالب اقتصادية واجتماعية
من النوع الموسمي والمعتاد، أو أن هذا ما أعتقده على الأقل. الاحتجاجات هذه المرة
تأتي على خلفية مختلفة جذريا عن كافة أو معظم الخلفيات السابقة.
لأول مرة يتم الربط بين سوء أحوال
الإسرائيليين وتدهور مستوى معيشتهم، ودخولهم في منطقة تخوم دائرة الفقر، وحافة
العوز والحرمان وبين فساد الطبقة السياسية في إسرائيل.
أقول «حافة وتخوم» لأن دخولهم أصبح مسألة وقت
ليس أكثر، ووقت ليس ببعيد وإنما هو وقت قريب وداهم.
ولأول مرة تشعر الطبقة السياسية بالخوف والجزع
كما تبدو الأمور من خلال سلوك وتصرف القيادات الحزبية المعنية بهذا الغضب
والمستهدفة من هذه الاحتجاجات.
هنا نلاحظ، أو بدأنا نلاحظ محاولات «النأي
بالنفس»، ومحاولات التنصّل من تبعات السياسات التي أدّت إلى هذه الاحتجاجات،
والمسارعة إلى رشوة «الجمهور»، والتسابق بين أقطاب الائتلاف على الابتعاد عن دائرة
«الخطر»، والهروب إلى الأمام في محاولة لتفادي الأسوأ.
وللمرة الأولى يلاحظ أن كتّاب الأعمدة في
إسرائيل، بمن فيهم أولئك المحسوبون على التيارات اليمينية يتجنبون عن وعي وسابق
ترصُّد مهاجمة المحتجين، بل ويتجنبون الخوض في «أحقية» هذه الاحتجاجات وكأن هذه
الأحقية أصبحت مسألة خارج النقاش.
وبمناسبة الحديث عن كتّاب الأعمدة في الصحف
والمواقع الرئيسة فإن آراءهم وكتاباتهم لها وزن كبير كما في كل الدول المتقدمة،
وهم يعتبرون بهذا المعنى، وبمعان أخرى مهمة وكبيرة المؤشر الأهم على طبيعة
المواضيع وأهميتها ومديات تأثيرها في الحياة السياسية والاجتماعية.
وهي المرة الأولى التي يتراجع فيها ومن خلالها
دور العامل الأيديولوجي، الفكري والثقافي بالمعنى الضيّق والتقليدي للكلمة، بالرغم
من أن هذا العامل كان يبدو سائدا ومتسيّدا في انحيازات الجمهور الإسرائيلي
واختياراته السياسية.
تراجع هذا العامل يُستدلّ عليه بوضوح تام من
خلال الشعارات التي يطرحها المحتجّون، ومن خلال تعددية انتماءاتهم ومشاربهم، ومن
خلال قوة ربطهم ما بين الفساد واللصوصية والغنائم السياسية من جهة، وما بين سوء
إدارتهم وسلوكهم للأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي وتفاقم
هذه الأزمة في المستقبل القريب من جهة أخرى.
كما أنها المرة الأولى التي ترتبك فيها
الحكومة الحالية إلى هذه الدرجة المزرية.
هنا نلاحظ ليس فقط مجرّد اختلافات على مدة
الموازنة، وإنما بدأ يتسرب من أروقة الائتلاف الحاكم في إسرائيل الاختلاف الكبير
على أولويات الصرف على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وبدأت تطلّ التناقضات بين
وزارة المالية ووزارات أخرى، وخصوصا وزارة الصحة، وبدأت أحاديث ـ ربما ما زالت
جانبية ـ عن مدى تأثير الرشاوى على تهدئة الجمهور أو مدى آثارها المعاكسة كونها ـ
أي الرشاوى ـ المؤشر الأهمّ على اعتراف النخب السياسية بالفشل التام.
ويبدو أن هذه الاحتجاجات آخذة بالاتساع،
ومرشّحة أكثر للتمدد إلى معظم التجمعات السكانية الكبيرة.
المؤكد أن الثقل العربي الفلسطيني الكامل فيها
هو على الطريق، والمؤكد كذلك أن هذا الثقل سيزيد ولو قليلا في هذه المرحلة من
التسييس الإيجابي لهذه الاحتجاجات لجهة بدء الربط ما بين فساد النخب السياسية في
إسرائيل وما بين أولويات الجمهور فيها، وهنا بالذات فإن الربط ما بين الاحتلال
والاستيطان، والموازنات العسكرية والأمنية، وما بين الفساد واللصوصية، وكذلك تقاسم
واقتسام مغانم السلطة السياسية سيؤدي إلى أكبر تحوّل سياسي يتجاوز الأيديولوجيات
والانحيازات التقليدية، ويَعْبُر بالمجتمع الإسرائيلي مناطق سياسية واجتماعية
وثقافية جديدة وغير معتادة.
من السهل أن يكون ويظل المجتمع متخندقا في
معسكرات اليمين الديني والقومي في مراحل الرخاء، ومن الممكن المراهنة على الخرافات
الدينية التي تُنظّر للتوسع والعدوانية في مراحل معينة، لكن من الصعب، إن لم نقل
من المستحيل بقاء الحال على ما هي عليه عندما تتحول جرائم خيانة الأمانة، والفساد
العام والطام إلى مجرد (خلاف سياسي)، وعندما تُسخّر كل مقدرات الدولة لصالح طبقة
فاسدة ومرتشية وتلعب بالبيضة والحجر.
(الأيام الفلسطينية)